محطات في تجربة التحرر الفيتنامية “9”

 

عبدالجبار الحاج
في 7 مايو 1954م، بعد خمسة وخمسين يوماً من القتال العنيف، استسلم الجنرال كريستيان دي لا كروا كاستري القائد الميداني في دين بين فو، مع بقية قواته، البالغة 16200 رجل، كما سبق. وفي الوقت نفسه، تعرض سائر القوات الفرنسية في البلاد، لهجمات شرسة، من جانب قوات الفيت منه، والثوار. وهكذا، على الرغم من الدعم الأمريكي الهائل، فوجئت الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الهزيمة غير المتوقعة.
وقد أعلن كلٌّ من جون فوستر دلاس، وزير الخارجية الأمريكي؛ وريتشارد نيكسون وهو حينئذ نائب الرئيس الأمريكي، في حديث إلى نادي الصحافة عبر البحار في نيويورك، أنه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحل محل فرنسا في الهند الصينية؛ من “أجل إنقاذ العالم الحر من زحف الشيوعية؛ وتولِّي شأن الفيتناميين، الذين يعجزون عن حكم أنفسهم”.
شكل انتصار ماو تسي تونج في الصين، واعترافه بحكومة هانوي، في أوائل 1950م، تطوراً كبيراً، بل أصبح عاملاً سياسياً ومجالاً إستراتيجياً سبب قرار الإدارة الأمريكية التدخل المباشر، مع الفرنسيين؛ لأن واشنطن رأت أن الخطر الشيوعي صار حقيقة داهمة. وأكدت تحليلات استخباراتها، أن تفوق القوات العسكرية الثورية الفيتنامية، في هجماتها الواسعة الناجحة على القوات الفرنسية، المدعومة أمريكياً، وخاصة في معركة دين بين فو ـ لم يكن جهداً فيتنامياً صرفاً، بل كان وراءه الدعم الشيوعي الهائل، ولا سيما من الصين الشعبية، الذي تمثل في الخبرة والأسلحة والتجهيزات.
ومن ثم، قررت إدارة آيزنهاور ضرورة دعم حكومة مناهضة للشيوعية، في فيتنام الجنوبية، وإزالة الحكومة الشيوعية المنتصرة، التي فرضت سلطانها على فيتنام الشمالية. ولإسباغ الشرعية على هذه السياسة، أوصى مجلس الأمن القومي الأمريكي، في أغسطس 1954م، بالتفاوض من أجل عقد معاهدة، تضمن الأمن في فيتنام الجنوبية، وتوفر “أساساً شرعياً للرئيس الأمريكي، يصدر من خلاله قرار الهجوم على الصين الشيوعية، في حال شنها هجوماً مسلحاً، يهدد السلام والأمن والمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية”. وتسمح المعاهدة، كذلك، بتقديم المساعدات الأمريكية إلى “حكومة محلية شرعية، تحتاج إلى العون على التصدي للتمرد الشيوعي على أراضيها؛ وتسمح للولايات المتحدة الأمريكية بحُرية استخدام السلاح النووي، عند الضرورة”.
وبعد شهر واحد، في 8 سبتمبر 1954م، أُبرمت اتفاقية تشكيل حلف جنوب شرقي آسيا وما سمي آنذاك سياتو ..ووقعه مندوبو حكومات كلٍّ من أستراليا وفرنسا ونيوزيلندا وباكستان والفيليبين وتايلاند وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، في مؤتمر في مانيلا. واتفقوا على التعاون المشترك، والتدخل السريع، في إطار نظام دفاع مشترك؛ لمساعدة كمبوديا ولاوس و”الأراضي الحرة الخاضعة للحكومة الشرعية في فيتنام”، على أيّ عدوان أو تدخّل شيوعي. وهكذا، تحقق للتدخل الأمريكي الكامل، المباشر، في فيتنام، غطاؤه الشرعي.
وأوضحت وثائق البنتاجون، أنه بينما كان وزير الخارجية، جون فوستر دلاس؛ ورئيس هيئة الأركان المشتركة، الأدميرال آرثر رادفورد، يضغطان في اتجاه التدخل، كان بعض القادة العسكريين الآخرين، وبخاصة الفريق الأول ماثيو ريدجواى أكثر حذراً؛ إذ ساورتهم آلام التجربة المريرة الطويلة في كوريا، ولم يكونوا يرغبون في تكرار خسائرها الفادحة، وسقوط الهيبة الأمريكية.
في الواقع، لم يكن أمام الرئيس الأمريكي سوى خيارات ثلاثة، طرحها أبرز مساعديه:
– نائبه، ريتشارد نيكسون، يرى أن الصين الشعبية هي أصل البلاء، ولا بدّ من ردعها في آسيا، ولو من دون موافقة الحلفاء. وقد أوضح ذلك بقوله: “إن المشكلة، الآن، تزداد تعقداً. ونحتاج إلى مزيد من الرجال؛ والمشكلة من أين نأتي بهم؟ لا يمكن أن نأتي بهم من فرنسا؛ فهي قد أنهكتها الحرب، مثلما أنهكتنا الحرب الكورية. ومن ثم، لا بدّ من أن نأتي بهؤلاء الرجال من كمبوديا ولاوس، ومن فيتنام خاصة. كذلك لا بدّ من توفير عامل التشجيع والحماسة على القتال والمقاومة، وإذا انسحبت فرنسا من الهند الصينية، سوف ترتفع الروح المعنوية لدى الفيتناميين؛ لأنهم سيشعرون أنهم يقاتلون من أجل الحصول على استقلالهم. ولكنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، ولا تنظيم قواتهم. ومن ثم، في حالة انسحاب فرنسا، سوف تسقط الهند الصينية في براثن الشيوعية، خلال شهر واحد. وإن الولايات المتحدة الأمريكية، زعيمة العالم الحر، لا يمكنها التراجع إزاء ذلك، ولا التخلي عن إرسال قواتها. ولذا، ينبغي أن تواجه المواقف بحزم، وتضطلع بمسؤوليتها؛ وأن تسارع في الذهاب إلى مؤتمر جنيف، وتتبنى موقفاً إيجابياً، يتوحد فيه العالم الحر أجمع. فإن لم يكن كذلك، فعليها أن تتحرك وحدها، وينبغي التأكيد أن المفاوضات مع الشيوعيين، ستؤدي إلى تقسيم الأراضي، وازدياد النفوذ الشيوعي في منطقة حيوية جديدة. ولعلّ التغلغل الشيوعي في كوريا درس لكلّ من الفرنسيين والبريطانيين، يوضح عدم جدوى المفاوضات، ويجعلهم يوافقون على خطة التحرك المشترك التي اقترحها وزير الخارجية، فوستر دلاس. كما ينبغي التأكيد أنه إذا تحولت الهند الصينية إلى الشيوعية، فسوف تتزايد الضغوط الشيوعية على المالايو، وتايلاند، وإندونيسيا (وهي الارخبيل الهائل أخذت استقلالها للتو وصار الزعيم سوكارنوا رئيسا لها واحد زعما مؤتمر الانحياز مع ناصر ونهرو وتيتو وكاسترو وهي الدولة التي اخذ يتنامى فيها الحزب الشيوعي من لحظتها وصاعدا وهو أمر سيقلق أمريكا وتبدأ فيها مسلسل المؤامرات وتفشل مرارا حتى تنفيذ مجازر 65 الدامية التي راح فيها أكثر من ثلاثة ملايين في انقلاب دموي شهير)، وكذا الدول الآسيوية الأخرى، وصولاً إلى الهدف الرئيسي للشيوعية في الهند الصينية، وهو اليابان، التي يريدون تحويلها إلى قمر صناعي للاتحاد السوفيتي”
– إما وزير خارجيته، جون دالاس فكان يرى ضرورة موافقة الحلفاء على التدخل لمناهضة الشيوعيين في الهند الصينية فقط، من دون التعرض لأيّ مواجهة مع الصين. وقد اتفق مع ريتشارد نيكسون في أن الزحف الشيوعي، لن يتوقف عند حدود الهند الصينية، بل سيمتد إلى جميع الشعوب الحرة في المنطقة، قائلاً: “وهذا ما صرحت به الدعايات، ووسائل الإعلام، في الصين الشعبية وروسيا، من أن هدفها هو السيطرة على جنوب شرقي آسيا كلّه. وقد حاولت حكومتنا، بكل الوسائل، بدءاً بالدعم الهائل للقوات الفرنسية، وحماسة الكونجرس لتقديم المساعدات الضخمة، لإنشاء حكومات موالية لنا هناك، أن تقْصي الصين الشيوعية من الساحة هناك، وتجنّب الحرب المفتوحة معها؛ لأنها سترهقنا بنفقاتها الباهظة. ولما كانت الصين الشيوعية، قد تجنبت استخدام جيوشها الشيوعية في هجوم مباشر على الهند الصينية، بل قدمت كلّ ما تستطيع من دعم وإمدادات؛ وأصبحت هي، ومن قبْلها الاتحاد السوفيتي، يمثلان تهديداً خطيراً للعالم الحر بأسْره؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية، تشعر أن هذا الموقف، يتطلب عملاً مشتركاً، يتضامن فيه حلفاؤها تضامناً كاملاً. وليعلموا أن رغبتهم في إرساء السلام في العالم، لن تتحقق بمجرد الأماني، بل بالعمل الجاد، والتخطيط المدروس، المشترك، وخوض الأخطار، وتقديم التضحيات للحصول على النصر”.
– رئيس الأركان، ( الآدميرال آرثر رادفورد ) كان يحبذ التدخل المطلق. ووضع خطة، حملت اسم (عملية النسر )، تقضي بأن تتولى ستون قاذفة أمريكية ب 29، من الطائرات المتركزة في الفيليبين، تساندها مقاتلات من حاملات الطائرات، من الأسطول السايع الأمريكي، في المحيط الهادي، تنفيذ غارات ليلية؛ تدمر القوات والمواقع الشيوعية في فيتنام، ولا سيما جميع المناطق المحيطة بدين بين فو. وهي الخطة التي عاد بها (بول إيلي) ، القائد الأعلى للقوات الفرنسية، إلى باريس، فوافقت عليها الحكومة الفرنسية، من الفور. واقترح آرثر رادفورد إجراءات إضافية، إذا لم تؤتِ تلك الإجراءات ثمارها، تشمل تدمير أهداف عسكرية أخرى في الصين، ومحاصرة سواحلها، تدريجاً؛ واحتلال جزيرة هانيان؛ واستخدام قوات برية من الصين الوطنية (فرموزا) (وهي ما تعرف اليوم بتايوان التي انسحب إليها قائد الثورة المضادة في الصين العميل للغرب والمهزوم والفار إلى تلك الجزيرة الصينية عقب انتصار ثورة الصين أواخر عام 49 …في عمليات برية، داخل الصين الشعبية) أما في حالة عدم تدخّل الصين المباشر في مصلحة فيتنام، فتقتصر المهمة العسكرية على حماية الدول التابعة، وتحطيم القوات الشيوعية في الهند الصينية. على أن تكون الإجراءات المقترحة على النحو التالي :
شن هجمات جوية أمريكية، بينما تواصل القوات الفرنسية عملياتها، تساندها قوات: فيليبينية وتايلاندية، لتحطيم القوات المعادية في الهند الصينية. ويمكن استخدام الأسلحة النووية، عند الضرورة؛ إضافة إلى المساندة الأمريكية: البحرية والجوية. وقد أعلن الفريق الأول، ناتان تويننج ، قائد القوات الجوية، تأييده التام لمقترح رادفورد.
وقرر الرئيس الأمريكي عرض المسألة على الكونجرس الأمريكي. وبعد الاستفاضة في المناقشات، أصر قادته على مشاركة الحلفاء، وخاصة بريطانيا. عندئذٍ، أبرق السفير الأمريكي، دوجلاس ، من باريس، إلى وزير الخارجية الأمريكي، جون فوستر دالاس، في أبريل 1954م، أن الفرنسيين قد طلبوا منه “التدخل المسلح، لحماية الطائرات الأمريكية، من الفور، في دين بين فو”. وأشار إلى أن الفرنسيين، قد دُفعوا إلى تقديم هذا الطلب؛ لأن الأدميرال رادفورد، أخبرهم أنه سيبذل قصارى جهده، للحصول على هذه المساعدة من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
في 26 مايو 1954م، رفع الآدميرال آرثر رادفورد، رئيسالأركان الأمريكي، خطته العسكرية المعدلة، عملية النسر، إلى وزير الدفاع، تشارلز ويلسون؛ وتضمنت المعالم الرئيسية التالية:
1.النصح بعدم إرسال قوات عسكرية كثيرة؛ لأن الهند الصينية، تخلو من أهداف عسكرية حيوية.
إذ إن المصادر الرئيسية لإمداد الفيتناميين، تأتي من الخارج، وعبْر الحدود الصينية. لذلك، يمكن تحطيم تلك الإمدادات أو تعطيلها هناك؛ ومساندة القوات الفرنسية بحاملة طائرات أمريكية فقط؛ والاعتماد على قوات الاتحاد الفرنسي وتوابعه في القتال البري، في حالة التدخل الصيني.
أما إذا تدخلت الصين تدخّلاً مباشراً، فإن رئيس الأركان، ينصح بتدمير الأهداف العسكرية، في الهند الصينية والصين والجزر القريبة، بالأسلحة: الجوية والبحرية؛ “واستخدام الأسلحة الذرية، إذا تطلب الأمر”.
وفي الوقت نفسه، تنفّذ قوات الاتحاد الفرنسي، البرية، مهمات، تستهدف قوات العدوّ في الهند الصينية، وتنسق غارات: جوية وبحرية، لتدميره.
بيد أن كلّ الحجج الحافزة إلى التدخل، لم تؤدِّ إلى نتيجة. وشعر مجلس الوزراء الفرنسي، أن الجمعية الوطنية، التي أنهكتها الحرب، ستعارض أيّ عمل عسكري جديد .
الجولة الأخيرة
من معارك دين بين فو
بلغ عديد قوات الاتحاد الفرنسي، في يناير 1954م،
497 ألفاً، من بينهم 18710 فرنسيين، و211 ألف فيتنامي من جنود الإمبراطور باو داي، و41729 من لاوس وكمبوديا.
بلغ عديد جيش الفيت منه 300 ألف، من بينهم 115 ألفاً نظامياً.
كان الاتحاد الفرنسي، قد خسر، قبيل هذا التاريخ، 69976 بين قتيل ومفقود، من بينهم 15681 نظامياً، والباقي من شمالي إفريقيا من والهند الصينية.
بدأت المعركة الحاسمة، في دين بين فو، بتولي 82470 جندياً فرنسياً زرع ألغام في 970 نقطة عسكرية، في دلتا النهر الأحمر، حيث مناطق تمركز 37 ألفاً من جنود الفيت منه.
اتسع نطاق المعارك، في الوقت نفسه، في خارج دين بين فو كذلك، في دلتا النهر الأحمر، حيث كانت تشكيلات قوات الفيت منه تشمل:
39 كتيبة، منها 24 نظامية، مع 100 سرية من القوات الإقليمية، و50 ألفاً من ميليشيات القرى، في مواجهة مائة كتيبة من الاتحاد الفرنسي، منها 27 كتيبة جاهزة لعمليات هجومية متحركة، والأخرى منوط بها مهام دفاعية ثابتة.
عدت القوات الفرنسية القطاع الأوسط، في وسط مدينة مونج تانه، هو أقوى القطاعات الثلاثة الرئيسية؛ وبالفعل كان كذلك. ورابط فيه نحو ثلثي القوات الفرنسية (أي ثماني كتائب)
قُسِّمَ عدة مراكز مقاومة متصلة معاً، تحيط بمقر القيادة، وقواعد المدفعية، ومراكز التموين، والمطار. بينما استخدمت سلسلة التلال الحصينة، شرقي القطاع في مهام الدفاع عنه، وأحيط القطاع كله بشبكة تحصينات وأسلاك شائكة وخنادق.
أما القطاع الشمالي، في تل دوك لاب فقد خصص لحماية القطاع من الهجمات القادمة من لأي تشاو شمالا وهي المحافظة الفيتنامية التي تقع في نطاقها بلدة بيان دييان فو، لحماية الجانب الشرقي الشمالي من الهجمات القادمة من توان جياو.
أما القطاع الجنوبي، ويسمى هونج كون، وتوجد به قواعد مدفعية ومطار احتياطي، فقد شمل مراكز للتصدي للهجمات القادمة من الجنوب، وتأمين الاتصال مع لاوس العليا.
تمركزت مواقع المدفعية الرئيسية في مونج ثانه وهونج كوم
إما المدفعية الخاصة، وفيها مدافع الهاون ورشاشات خفيفة، ومدافع قصيرة المدى وقاذفات اللهب.
أقامت القوات الفرنسية جسراً جوياً، شهد نحو مائة رحلة يومية، من كل من هانوي وهايفونج إلى المطارين: الرئيسي في مونج ثانه، والفرعي في هونج كوم.
وكانت المائة رحلة اليومية، تنقل من 200 إلى 300 طن معدات وتموينات وتجهيزات، وتسقط مواد أخرى، تزن من 100 طن إلى 150 طناً، يوميا، داخل المعسكر. وكان يسبق موكب الطائرات سرب حماية ، ينطلق من مطاري جيا لام وكات بي، في البداية. ثم صار ينطلق من حاملات الطائرات الأمريكية المرابطة في هالونج. يعقب ذلك سرب آخر من القاذفات، يرافق الموكب، ويشن هجمات تدميرية.
كانت القوات الفرنسية المتمركزة في المعسكر، تضم وحدات خاصة مختارة، تدربت تدريباً خاصاً على الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة والحديثة والتجهيزات، التي أرسلتها باريس والقيادة العسكرية الأمريكية. واعتمدت على دعم احتياطي من الأسطول الأمريكي السابع، ثم عُزِّزت بأربع كتائب مشاة وسريتي مظلات.

تتابع هزائم الفرنسيين :
تدهور الوضع العسكري في أواخر مايو وأوائل يونيو 1954م، في دلتا النهر الأحمر من هانوي، تدهوراً شديداً؛ حتى إن واشنطن شعرت بعدم جدوى التدخل، في ذلك الوقت. وفي 15 يونيو من العام نفسه، أبلغ جون فوستر دالاس السفير الفرنسي بوتيه، أن التدخل قد فات أوانه.
توالت انتصارات قوات الفيت منه على القوات الفرنسية، في ناسان ، ولاو.
حتى هذا العام 45 كان قد بلغ عديد قوات الفيت منه 320 ألف جندي،
موزعين على 86 كتيبة مشاة، وعدد من الوحدات: المتخصصة والفنية.
بينما ارتفع عديد القوات الفرنسية إلى 250 ألفاً، موزعين على 23 كتيبة مدفعية، و528 طائرة، و390 قطعة بحرية.
أسهم الطيران الأمريكي إسهاماً فاعلاً، في تأمين الإمدادات من فرنسا واليابان والفيليبين. ورابطت حاملتا طائرات أمريكية، من الأسطول السابع، في خليج تونكين؛ وشارك 250 طياراً أمريكياً في المجهود الحربي الفرنسي.
كانت حصيلة العمليات العسكرية، خلال عامَي 1953 و1954، بما فيها معركة دين بين فو، التي شارك فيها الفيتناميون الجنوبيون مع الفرنسيين والأمريكيين:
1. سقوط ما يزيد على 115 ألف جندي، بين قتيل وجريح وشريد؛ وهم يشكلون نحو ربع القوات الفرنسية في منطقة الهند الصينية؛ وتدمير 25 كتيبة كاملة.
2. سقوط 239 طائرة مقاتلة، تشكل العمود الفقري للقوات الجوية في الهند الصينية.
3. تدمير كميات كبيرة، من المعدات والأسلحة والذخيرة والمركبات.
4. تحرير المنطقة الشمالية الغربية برمّتها، من الجنود الفرنسيين، لتمتد المناطق المحررة إلى جميع الأقاليم الجبلية، من فيت باك إلى الشمال الغربي وهوا بنه؛ بل إلى منطقتَين محررتَين أخريَين كبيرتَين: أولاهما، في لاوس العليا؛ ما تسبب بحصر القوات الفرنسية في دلتا النهر الأحمر. والثانية، في شمال الهضاب العليا؛ ما جعل الفرنسيين عاجزين عن تهديد الخطوط الخلفية في كلٍّ من بنه دنه، وكوانج نام، وكوانج نجاي. كذلك امتدت المناطق المحررة من الساحل إلى حدود لاوس، كما اتصلت بالمنطقة المحررة في لاوس السفلى. ونشط رجال العصابات الثوار، في منطقتَي بنه تري تين، والجنوب، واتسعت قواعدهم.
أمست القيادة الفرنسية غير قادرة على هجمات جديدة؛ بل انحصر همها الأساسي في الحفاظ على بقايا قواتها، والقوات الموالية لها. ومن ثم، أصدر رئيس الأركان الفرنسي، في أثناء زيارته سايجون عاصمة الجنوب الففيتنامي ، في 15 مايو، أوامره بتخفيض الوجود الفرنسي في دلتا النهر الأحمر؛ تمهيداً للانسحاب من الشمال إلى جنوب خط العرض 17، الذي تأسس في يوليو، عقب خروج القوات الفرنسية من مناطق ومدن شتى . وهكذا تحول وجود الفرقة الفيتنامية المؤقتة، على طول الخط الآنف، إلى وجود دائم، حتى عام 1975م.
في الأول من يونيو 1954، وصل القائد، العقيد إدوارد لانسدل ضابط الاستخبارات الأمريكي، إلى سايجون، وبدأ التنسيق مع الجماعة الاستشارية العسكرية الأمريكية وبدأ الإعداد لسلسلة هجمات على فيتنام الشمالية.
وقد تكبّدت القوات الفرنسية خسائر فادحة، أثناء انسحابها. وترك عشرات الآلاف من القوات المحلية صفوفها، ولحقوا بالقوات الثورية.
في أواخر يوليه، كان الفرنسيون قد أعادوا تنظيم قواتهم وتجميعها، على طريق عاصمة الشمال هانوي ـ ومينائها الرئيس على خليج تونكين ميناء هايفونج وتمركزوا في هذه الأخيرة، ثم غادروها، حسب جدول زمني، بعد اتفاقيات مع الثوار، نصت على تبادل الأسرى، وأسلوب التعامل مع الجرحى والمرضى من الطرفَين؛
وفي 28 ابريل يغادر آخر جندي فرنسي أراضي الهند الصينية .
وهكذا فشلت فرنسا فشلاً ذريعاً في منطقة الهند الصينية، للمرة الثانية، بين عامَي 1945 و 1954م. وتكبدت خسائر مادية فادحة، زادت على ثلاثة تريليونات فرنك؛ عوضت المعونات الأمريكية الضخمة قسماً كبيراً منها. أما الخسائر البشرية، فقد جاوزت النصف مليون جندي: فرنسي وفيتنامي، بين قتيل وجريح وأسير ومفقود.
كانت هذه النتائج، في نظر الجنرال فو نجين جياب، أعظم فوز عسكري، في حروب التحرير الشعبية؛ لأنها كبّدت الفرنسيين خسائر فادحة، غيرت مجرى الحرب في فيتنام. وقد انتهز رجال الفيت منه توقف القتال، ليعيدوا تنظيم صفوفهم، وإعداد المسرح لمرحلة تالية من الحرب. وفي 11 أكتوبر 1954م.
سار موكب الجنود المنتصرين، نحو 30 ألفاً، في شوارع العاصمة هانوي، في استعراض للقوة؛ ودعماً لسيطرة هوشي منه على مقاليد الأمور وترجع أسباب انتصار قوات الفيت منه إلى حُسن تخطيط الحزب الشيوعي الفيتنامي، والتضحيات العسكرية، والعزم القوي للشعب الفيتنامي.
وتجدر الإشارة إلى أن المساعدات الأمريكية، تمثلت في أسلحة متطورة، وتجهيزات حديثة؛ بل إن واشنطن وضعت قواتها النووية التكتيكية في حالة تأهب قصوى، في مواجهة التدخل الصيني. ومع ذلك، فقد طلبت من باريس رفض التسوية السلمية، والموافقة على عمل عسكري مباشر، مشترك، قبل معركة دين بين فو وأثناءها.
واللافت كذلك، أن الأمريكيين، قد حملوا كلاًّ من الفرنسيين والبريطانيين مسؤولية الهزيمة العسكرية في الهند الصينية، في المعركة الأنفة، من دون مبررات مقبولة.
هذه هي ابرز التحولات العسكرية التي أحدثت تحولا فارقا وحاسما في معارك توجتها ديان بييان فو الفاصلة كما اشرنا بإيجاز وبما أمكن من تفصيل ..
وسأتناول فيما سيأتي التناولة الأخيرة من الجزء الأول من حرب التحرير الفيتنامية وفيها سأتناول التطورات السياسية المتوازية مع اشتداد وتوالي الانتصار الفيتنامية ..في هذه الحلقات بالذات هذه والقادمة نحن اليمنيين علينا أن نتعلم من التجربة كيف تحارب وتنصر ومتى وكيف تخوض المعركة السياسية في المفاوضات .بحيث أن الطرف المستضعف في الحرب هو الذي يجبر الطرف الظالم والغاشم المتفوق عسكريا وماليا وفي الهيئة الأممية ..بحيث تملي عليه الشروط حين يحس ويلمس. أن حربك طويلة وليس في حسبان المستضعف أمر حساب وفداحة النصر بقدر ما هو حسبان وحساب النصر النهائي ..
هنا يبدأ الطرف الاستكباري الاستعماري هو من يبحث عن الحل والمستضعف هو من يطرح الشروط .
وهذا ما سنتناوله بغية الاستفادة وقد رأينا في المعركة اليمنية مع عدوان سعود ونهيان والتحالف كله إرادات وتضحيات المقاتل والاحتفاظ بمعنويات وعوامل النصر والتحرير ببدائية السلاح ولكن بالحفاظ وتطوير نقاط القوة التي أن لم يدركها المستضعف اليمني فانه سيخسر المعركة مع وجود مفاوض سياسي شكل في مساره وخياره خنوعا وضعفا وانصياعيا بداعي ومبرر أظهار النية الحسنة فكان المفاوض وسيبقى على نحو أدائه الراهن نقطة ضعف فاصلة لصالح العدو ونقطة ضعف ثقيلة وضاربة للمقاتل .
وخاصة أن المعركة ما لم تأخذ ببعدها الحاسم في الرقعة والمكان والساحة التي تضرب العدو في عقره في نجران وجيزان وعسير وتلك هي المساحة التي تشكل أعضاء العدو الموجوعة والتي يسهل كسرها .
فالى مسار السياسة والتفاوض في موازة الحرب التي طلبتها فرنسا وخضعت لشروط المقاتل والمفاوض الفيتنامي الذين كانوا يعملون كفريق واحد وهيئة قرار واحد جامع للعسكري والسياسي وووو…

قد يعجبك ايضا