حسم البيت السعودي أخيرًا صراع الخلافة بين المحمدين، بن سلمان وبن نايف، الذي احتدم خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث صدر فجر أمس الأربعاء، في توقيت تشابه كثيرًا مع توقيت اتخاذ قرار مقاطعة وحصار قطر في 5 يونيو الجاري، أمر ملكي تقرر عليه إعفاء الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز من ولاية العهد، ومن منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، ومنصب وزير الداخلية، وتعيين محمد بن سلمان وليًّا للعهد، ونائبًا لرئيس مجلس الوزراء، مع احتفاظه بمنصب وزير الدفاع، مع ما كلف به من مهام أخرى، وذلك بعد تصويت هيئة البيعة بـ 31 صوتًا من 34، على أن يؤدي “محمد بن سلمان” القسم وليًّا للعهد بعد صلاة تراويح يوم أمس الأربعاء بقصر الصفا في مكة المكرمة.
وتضمن الأمر الملكي تعديل الفقرة “ب” من المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم، لتنص على أن “يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم ، ولا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملكًا ووليًّا للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس”.
بن سلمان.. من مستشار بمجلس الوزراء إلى ولي للعهد
محمد بن سلمان هو الابن السادس للعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، ولد في عام 1985.
ويرى العديد من المراقبين أن القرار الملكي الأخير كان متوقعًا في سياق التطورات بالسعودية، فلم يكن سوى تتويج لقرارات ملكية عدة اتخذها الملك سلمان خلال الأشهر الماضية، فمنذ تولّي العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، العرش في مطلع عام 2015، لم يدع مجالًا كان يشغله ابن أخيه “بن نايف” داخليًّا إلَّا واقتحمه بطريقة فجة وصارخة، ولم يدع أيًّا من حاشية الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز إلا وأزاحه، وبدأ إجراءات تقريب نجله من ولاية العرش ليكون خليفة له، وكانت البداية مع إطاحته بأخيه “مقرن” من ولاية العهد، ليصدر في نوفمبر وديسمبر الماضيين على التوالي سلسلة أوامر ملكية أطاحت بوزراء ورؤساء الهيئات التابعة للدولة، وقربت الموالين لنجله إلى الديوان الملكي والمناصب السيادية.
في إبريل الماضي عاد العاهل السعودي ليصدر سلسلة قرارات أخرى، استهدفت تقويض سلطة ولي العهد، وكان أبرزها إنشاء “مركز الأمن الوطني” ليكون تابعًا للديوان الملكي، وتعيين نجل الملك، خالد بن سلمان، سفيرًا للسعودية في الولايات المتحدة الأمريكية كمحاولة لتحسين صورة شقيقه “بن سلمان” في واشنطن، وقبل أيام أصدر أوامر ملكية جديدة كان أبرزها فصل هيئة التحقيق والادعاء العام التابعة لوزارة الداخلية التي كان يشرف عليها ، محمد بن نايف، عن السلطة التنفيذية، وجعلها مستقلة استقلالًا تامًّا وربطها مباشرة بالملك، بعد تغيير اسمها إلى “النيابة العامة”، الأمر الذي ظهر فيه مزيد من التهميش لـ”بن نايف”.
هذه المكانة البارزة التي صعد إليها بن سلمان سريعًا تحت مظلة والده بعثت بمؤشرات حول حتمية انقضاضه على عرش الملك وإطاحته بإبن عمه، فما كان له إلا أن يعزز مكانته على المستوى الدولي والإقليمي أيضًا، فكانت المباركة الأمريكية هي الأهم وإقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس “دونالد ترامب” بأنه الملك المستقبلي، وهو ما دفعه إلى السفر مرارًا إلى واشنطن، فكان “بن سلمان” أول مسؤول خليجي يلتقي “ترامب” بعد تنصيبه رئيسًا، حيث قدم خلال الزيارة في مارس الماضي فروض الولاء والطاعة، ليحصل على موافقة الزعيمة الكبرى، فوعد بالاستثمار الكبير في الاقتصاد الأمريكي، وطلب المزيد من الأسلحة، وتعهد بأن يكون رجل واشنطن في الرياض لمحاربة الإرهاب، وظهر ذلك في الصفقات التي قاربت 500 مليار دولار خلال زيارة “ترامب” للمملكة في مايو الماضي، كل ذلك دفع الرئيس الأمريكي إلى الموافقة على إزاحة “بن نايف” لصالح “بن سلمان”، وذلك برعاية ومساندة أيضًا من ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الذي لديه طموحات إقليمية واسعة تتوافق مع طموحات “بن سلمان”.
بن سلمان.. سياسة تصادمية متهورة
على مدار السنوات القليلة التي تقلد فيها “بن سلمان” مناصب قيادية، ظهرت شخصيته العدوانية الصدامية، التي لا تتمتع بأي قدر من الدبلوماسية السياسية، سواء في الأزمات أو العلاقات العامة مع دول العالم، فصغر سنه وقلة خبرته دفعاه إلى توريط بلاده في الكثير من الكبوات وإسقاطها في مستنقعات متعددة، فهو شخص مبتدئ في اللعبة السياسية، الأمر الذي جعل الأوضاع في المملكة سواء داخليًّا أو خارجيًّا تتغير إلى الأسوأ، حيث اتجهت نحو الغطرسة والتدخل المباشر في شؤون دول الجوار وإثارة الفتن الطائفية بعلنية فجة، كما تصاعدت الخلافات بين معظم الدول العربية والسعودية منذ تعيين “بن سلمان” وزيرًا للدفاع وجعل الكلمة العليا والنفوذ في يده بدلًا من والده، حتى إن معظم الدول الغربية بدأت تتخوف من سياسة الأمير المتهورة والمتخبطة في ظل خروج “سلمان” من المشهد السياسي.
مسيرة الدم والتفكك
سعى “بن سلمان” إلى إظهار تفوقه السياسي والعسكري على ابن عمه “بن نايف”، وقوة قراراته حتى وإن كانت متهورة، ولم يتم حساب عواقبها، فبادر باتخاذ عدة إجراءات وقرارات أدخلت المملكة في دوامة كارثية من الأزمات، فكانت البداية مع إعدام عالم الدين، نمر باقر النمر، وذلك على الرغم من النداءات والتحذيرات التي أطلقتها عدة دول من أن إعدام “النمر” سيفتح أبواب جهنم على المملكة.
كما ظهر ذلك أيضًا في قرار شن العدوان السعودي على اليمن، الذي قاده “بن سلمان” فور تعيينه وزيرًا للدفاع في عام 2015، فمن “عاصفة الحزم” إلى “إعادة الأمل” أثبت بن سلمان فشل قراره السياسي وخططه العسكرية، ثم جاءت معاداته الشديدة لإيران وإظهارها كفزاعة للدول الخليجية وأمريكا، ما جعل الطريق مُمهدًا أمام التحالف مع إسرائيل التي تتوافق معه في هذه الأفكار، وفي أحيان أخرى اتبع سياسة تصادمية مع بعض الدول الحليفة تاريخيًّا لبلاده، وعلى رأسها مصر وقطر التي يقود حملة موسعة لمقاطعتها وحصارها بمساندة بعض الدول، وعلى رأسها الإمارات والبحرين ومصر.
دائرة الأعداء تتوسع
وترى العديد من الدوائر السياسية أن هناك الكثير من الاضطرابات والمشاحنات داخل العائلة الحاكمة، خاصة أن عزل “بن نايف” وتعيين “بن سلمان” لا يلقى تأييدًا من أبناء العائلة، وهو ما أكده المغرد السعودي الشهير “مجتهد” في سلسلة تغريدات أطلقها على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر” تعليقًا على التطورات الدراماتيكية التي تشهدها المملكة العربية السعودية، حيث قال إن الخطوات التالية ستكون إصدار قرارات تجميلية تحسن صورة ولد سلمان، وحملة اعتقالات ضخمة تشمل أشخاصًا في الأسرة الحاكمة، ثم خلال أيام سيتنازل الملك سلمان عن الحكم لابنه، وأوضح “مجتهد” أن المعلومات التي بحوزته تؤكد أن هناك غضبًا داخل بيت “آل سعود” واتصالات ساخنة، لكن لم يتبين إن كان سيتمخض عنها تمرد على هذه القرارات أو ستُحتوى.
في ذات الإطار جاءت وثيقة مسربة من البيت الحاكم لتؤكد وجود انقسامات وخلافات بين أوساط العائلة الحاكمة في المملكة السعودية، حيث أظهرت وثيقة مسربة وجهها كبار أمراء “آل سعود” إلى الملك سلمان، اعتراضًا على عزل ولي العهد “بن نايف” وتعيين ولي ولي العهد “بن سلمان” بدلًا منه، وصدرت في ديسمبر الماضي عن مكتب الأمير “مقرن بن عبد العزيز” ولي العهد السابق، ووقع عليها 21 من كبار أمراء الأسرة الحاكمة، رفض إجراءات تصعيد محمد بن سلمان لولاية العهد، محذرين من أن هذه الخطوة من شأنها تفكيك لحمة الأسرة، وجلب مستقبل غامض، معتبرين أن مثل هذه الخطوة مخالفة لنظام البيعة في الأسرة الحاكمة.
يرى مراقبون أن على رأس الساخطين في البيت الحاكم إخوة الملك “سلمان”، ومن بينهم أحمد وطلال ومقرن، إضافة إلى أمراء الجيل الثاني، وأبرزهم متعب ابن الملك الراحل عبد الله، وعبد العزيز ابن الملك الراحل فهد، بالإضافة إلى أمراء صغار ومهمشين ، وبعضهم أبناء الملك سعود، الأمر الذي يجعل صف الأعداء يزداد في مقابل محاولات الملك سلمان ونجله جعل السلطات كلها لا تخرج عن قبضة العائلة.
انضمام “بن نايف” إلى قائمة المُهمشين قد يدفع إلى الاتحاد سويًّا وقيادة مخطط جديد لعودة قوية إلى السلطة على حساب عائلة سلمان، وخاصة نجله، والانتقام لسنوات من تهميشهم، حيث رأى العديد من المراقبين أن هدوء الأمراء المهمشين لسنوات ماضية لا يعني استسلامهم للأمر الواقع، بل هو هدوء ما قبل العاصفة التي يمكن أن تثور قريبًا، خاصة مع زيادة السخط داخل البيت السعودي، وما ستتبعه المملكة بعد تولي “بن سلمان” الحكم من سياسة متهورة واندفاعية وتصادمية قد تُسقط الدولة في مستنقع من الأزمات والخلافات الإقليمية والدولية، الأمر الذي سيجعل الأطراف الساخطة تجد فرصتها في الانقلاب على “بن سلمان” في محاولة لإنقاذ البلاد من سياسته.
Prev Post