الثورة نت/خليل المعلمي
بحلول الألفية الثالثة وانعطافة القرن العشرين انخرط العالم في موجة جديدة من موجات (الحداثة) وما بعدها، موجة ما فوق الحداثة أو ما يصطلح عليه البعض “الحداثة الفائقة” موجة تتصدع من خلالها الحواجز الجغرافية بين الدول والمجتمعات وتذوب فيها الحدود بين العلوم والمعارف، وبتلاشي تلك التواصل المادية والمعرفية يؤسس “العالم المترابط” أو القرية الكونية التي نظّر لها “مارشال مكلوهان”، وأضحى العالم بذلك شبكة ومن شبكة العالم إلى عالم الشبكة أبدع النص الشبكي.
في عنوان فريد اختاره الدكتور عمر زرقاوي لكتابه “الكتابة الزرقاء” وهي مدخل إلى الأدب التفاعلي وقد تحدث فيه عن “النص المترابط” وظهوره الذي أدى إلى تحول جوهري يمس النظرية الأدبية برمتها، حيث استطاعت الثورة الرقمية أن تخلط قنوات التشكيل الأدبي وأطره وتدخل الأدب مغامرة التجريب والاكتشاف، مما أفضى إلى خلخلة الأجناس الأدبية وبتلك التحولات الحاصلة باتت الحاجة ماسة لجماليات أدبية جديدة تستوعب المتغيرات التي ألمت بالإبداع الأدبي في عصر المعلوماتية.
ويؤكد المؤلف في مقدمة الكتاب أن ما يحصل اليوم إنما هو استراتيجية تحول من سلطة العقل الأداتي على سلطة العقل الرقمي، فالرقمنة صورة جديدة للأداتية، فمثلما زحف العلم التجريبي صوب العلوم الإنسانية بغاية علمنتها على أساس أنها معرفة دنيا تجد الثورة الرقمية في ذلك الأساس مبرراً لضرورة رقمنة المعرفة ورقمنة الإبداع أيضاً.
ويتابع: بدأت معالم الرقمنة تتجلى في انبجاس أجناس أدبية جديدة كالرواية الترابطية والرواية التفاعلية والمسرح التفاعلي وانبثاق مصطلحات نقدية تعبر بجلاء عن منطق التحول المعرفي والكتاب من خلال فصوله الأربعة وقف أمام عدد من التساؤلات وحاول الإجابة عنها.
توقف المؤلف في الفصل الأول عند تلك الألحان الجنائزية التي عزفها العقل الغربي معلناً نهاية موجة من موجات الحداثة ليؤسس لحداثة بديلة، نهاية الحداثة الأداتية وميلاد الحداثة الناعمة، ويقول: لعله من الطبيعي أن يتم الإعلان عن نهاية الأدب بعد انخراط الغرب في حديث النهايات، نهاية الإنسان مع “ميشال فوكو” ونهاية المؤلف مع “رولان بارت” فموت الأدب إذاً هو نهاية شكل من أشكال الأدب ليولد شكل جديد يكون نتاجاً طبيعياً لمنطق التحول المعرفي الذي تشهده الثقافة الغربية من سلطة العقل الأداتي إلى سلطة العقل الرقمي أو من مرحلة حداثة الصناعة (الإنتاج المادي الثقيل) على حداثة ما بعد الصناعة (الإنتاج الأثيري الناعم).
وناقش المؤلف في الفصل الثاني خلافة الدراسات الثقافية للأدب الذي أعلنت نهايته لتتأكد مقولة “تيري ايجلتون” كما يقول بأن النظرية الأدبية الخالصة أسطورة أكاديمية، كما عرض بشيء من التفصيل لنهاية “الأدب المقارن” كاشفاً منافحته عن المركزية الأوروبية وتمركزه حول ذات فرنسية متفوقة ثقافياً وانخراطه من جديد في الدفاع عن مشروع التنميط الثقافي المفروض قسراً على العالم من قبل المدرسة الأمريكية للأدب المقارن.
ويشير إلى أن أفكار “ما بعد البنيوية” و”الممارسات المترابطة” تشكل مرجعية لما صار يعرف في الوسط الثقافي بالأدب التفاعلي الذي يعتمد النص المترابط كبرنامج حاسوبي في إرساء معالمه، مؤكداً أن تلك الأفكار لم تعد مرجعاً للأدب التفاعلي فقط بل أن الصورة تستمد مرجعيتها من ثقافة ما بعد الحداثة.
ويبين المؤلف في الفصل الثالث التحول الذي طال المنظومة الإبداعية باقتحام الحاسوب الإبداع الأدبي الذي أعاد تشكيل نظامها العلائقي من تركيبها الثلاثي (كاتب، نص، قارئ) إلى تركيب رباعي (كاتب، حاسوب، نص، قارئ) وقد كان ذلك مقدمة لنتيجة مؤدّاها أن طبيعة الوسيط هي التي تحدد طبيعة الأطراف المكونة للمنظومة الإبداعية فمتى كان الوسيط طباعياً ورقياً جاءت الأطراف الباقية من جنس الوسيط نفسه، وإذا كان الوسيط حاسوبياً إلكترونيا تلونت بقية الأطراف بأصباغه.
ولأن الأدب التفاعلي كجنس أدبي جديد عماده النص المترابط فقد أخذنا المؤلف عميقاً في خلفيته التاريخية ومساره الابستيمولوجي، وهناك تجلت علاقة النص المترابط بالسيبر نطيقا وحتى نفهم تلك العلاقة يعيدنا إلى السياق التاريخي لظهور ذلك العلم الجديد.
وأعطى المؤلف في الفصل الرابع تعريفاً عن الأدب التفاعلي كجنس أدبي ناشئ عن التزاوج بين الإبداع الأدبي والحاسوب وحدد بشيء من التفاصيل مفاهيم (الرواية التفاعلية، الرواية الترابطية، رواية الواقعية الرقمية، المسرحية، القصيدة التفاعلية).
ومع نهاية الفصل ناقش المؤلف مدى تفاعل الثقافة العربية مع الجنس الأدبي الجديد وهل تفاعلت أم انفعلت كما حصل من قبل مع التيارات الفكرية والأدبية الغربية الوافدة إلى الثقافة العربية مع مطلع القرن العشرين.
وتأكيداً لحقيقة الانفعال لا التفاعل وقف المؤلف على أزمة أضحى يعيشها الباحث العربي في علاقة الثقافة العربية بجديد الثقافة الالكترونية في الغرب وهي أزمة تمثل ظاهرة تعدد الترجمات العربية للمصطلح الغربي في أصل وضعه أبرز تجلياتها، ويؤكد أن أزمة الثقافة العربية المعاصرة قد بلغت في علاقتها بالثقافة الالكترونية الغربية حد توّهم بعض مستهلكي هذه الثقافة الجديدة ريادة هذا المولود الإبداعي الجديد.
قد يعجبك ايضا