هشام علي
يعاني الكتاب في اليمن من مشاكل عديدة، لا يمكن تحديدها في قضايا الطباعة والنشر والتسويق، أو في جماليات هذه الطباعة وفنون الإخراج ونوع الورق المستخدم في الطباعة، ناهيك عن تكاليف الطباعة الباهظة وغلاء سعر الكتاب وضعف انتشاره وتسويقه، ليس على المستوى العربي، بل داخل حدود اليمن ومحافظاتها، إذ لا توجد دار نشر وطنية تحقق توزيع الكتاب داخل اليمن وخارجها.
ولا نريد في هذه الورقة أن نقتصر على ذكر المشكلات التي تواجه صناعة الكتاب، ولكننا نحاول وضع أفكار ومقترحات للخروج ببعض الحلول والمخارج التي تساعد في تطوير الكتاب وتحقق انتشاره، أو لنقل إننا نحاول في هذه الورقة، التفكير بصوت عال في مشكلات الكتاب واقتراح الحلول، مؤملين في نهاية الأمر، على الإضافات والآراء والمناقشات التي يمكن أن تثيرها الورقة، لا سيما إننا نطرح القضية إمام المثقفين والكتاب والمختصين بشؤون الطباعة والنشر وكذلك تتقدم الورقة ببعض الأفكار المتعلقة بالقراءة، فالقراءة هي الجزء المكمل في قضية الكتاب. ولذلك نثير هنا سؤالا خاصا بالمجتمع القارئ. كيف يمكن تنمية القراءة ابتداء من الأطفال في المدارس دون أن ننتهي بالحديث عن وصول الكتاب إلى القرى والمناطق النائية. لا بد في الأخير من الإشارة إلى التقنيات الحديثة والتحديات التي يواجهها الكتاب الورقي أمام الكتاب الالكتروني، وما يثيره البعض عن نهاية الكتاب. وهذه قضية مؤجلة في مجتمعنا، حيث لا تصل الطاقة الكهربائية إلى كل البلاد، بالإضافة إلى انقطاعها لساعات كما أن أجهزة الكمبيوتر ليست منتشرة بصورة واسعة. ونود الإشارة هنا إلى أن الكتاب الالكتروني ليس بديلا للكتاب الورقي كما يتبادر إلى أذهان البعض.
وسوف تتوزع الورقة على ثلاثة محاور:
1 – الكتاب: ويشمل التأليف، حقوق المؤلف، حرية التعبير أو ضاع المؤلفين، طرق دعم التأليف.
2 – طباعة الكتاب ونشره.
3 – القراءة والمكتبات.
4 – خلاصة عامة حول مستقبل الكتاب في اليمن واقتراح سياسة وطنية تنويرية للكتاب.
1 – الكتـــــاب
قبل أن نبدأ الحديث عن مشكلات الكتاب وطباعته وانتشاره، رأينا أن نمهد بالحديث عن علاقتنا بالكتاب والقراءة والاقتناء ويتبقى أن نشير في البداية إلى أن الكتاب اليمني ظهر متأخرا، أو لنقل إن عملية طباعة الكتاب وصلت متأخرة إلي بلادنا، كذلك لم يكن نموها متسارعاً بصورة تعبر عن التطور الثقافي والعلمي في بلادنا، ولم تتأصل صناعة الكتاب وتكتسب تقاليد راسخة وفي حين نرى أن مكتبات البيع ولاستيراد تعود إلى فترة مبكرة من القرن العشرين، وكانت هناك مكتبات معروفة لاستيراد والمطبوعات العربية والانجليزية، في مدينة عدن على نحو خاص في حين كان استيراد الكتاب امرأ محظورا في النظام الأمامي في شمال اليمن.
ورغم هذا المناخ المعادي للكتاب، لعب الكتاب دورا كبيرا في معارضة النظام الملكي والتحضير للثورة، سواء في المحاولة الأولى للثورة الدستورية في 1948م أو في المرحلة اللاحقة التي أدت إلى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م .
فقد كان يتم تسريب الكتب إلى صنعاء وتعز وأب إلى القادمين من عدن، والكتب المهربة كانت ذات صفة ثورية مناهضة للاستبداد. وأبرز تلك الكتب كان كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي، وكتاب” أم القوى” بالإضافة إلى كتاب جاك روسو” العقد الاجتماعي” وبعض الروايات التاريخية لجرحي زيدان.
كما أن الطلبة الذين ذهبوا في البعثات الأولى للدراسة في القاهرة وبيروت وبغداد كانوا يحملون معهم كتب من النوع ذاته، عند عودتهم إلى اليمن، وأشهر شخصية بين هؤلاء كان الأستاذ/ احمد الحورشي، الذي لم يكتف بحمل نسخ مطبوعة من الكتب المذكورة، بل قام بنسخها بخط يده حتى يحقق اكبر انتشار لها في أوساط المثقفين، وربما أنه تعمد نسخها من أجل أن يخلق علاقة حميمة بينها وبين المثقفين التقليديين في اليمن، الذين كانت علاقتهم بالكتاب المخطوط لا تزال قوية ومقدسة في بعض الأحيان.
وينبغي أن نتوقف عند هذه العلاقة المبكرة بين الكتاب والقضايا الوطنية، فقد أرست هذه العلاقة تقليدا تكرر كثيرا في مراحل مختلفة من تاريخ اليمن في القرن الماضي. فالمكتبات الرائدة في اليمن، في مدينة عدن على نحو خاص، كانت تستورد الكتب العربية وبصورة محدودة الكتب القومية وكتب الأدب واللغة العربية، وهذا يعبر عن دور وطني ساد في مطلع القرن العشرين، حيث كانت القضية الوطنية الرئيسية في مدينة عدن هي الدفاع عن عروبة المدينة وحماية اللغة العربية، وهو ما ظهر في وسط طلائع الحركات القومية والنوادي الثقافية مثل مخيم أبي الطيب والنادي الثقافي العربي وغيرها.
وفي مرحلة لاحقة من الخمسينات والستينات، أخذت كتب الفكر القومي تنتشر، كما انتشرت الكتب الثورية العربية في مرحلة الناصرية وكتابات حركة القوميين العرب.
وهذه المرحلة هي مرحلة بدايات الثورة والوجود المصري في اليمن، بالإضافة إلى بروز تيار حركة القومية العرب وتكوين الجبهة القومية.
ويتكرر الأمر في السبعينات بانتشار الكتب الماركسية والاشتراكية التي تزامنت مع تجربة الحكم الاشتراكي في الجنوب ثم ظاهرة انتشار الكتاب الإسلامي السياسي والكتب السلفية في التسعينات، متزامنة مع ظهور الإسلام السياسي والتيارات الأصولية والسلفية في اليمن.
هذه الظاهرة الخاصة بترابط الكتاب مع الحياة السياسية حملت صفات سلبية إلى جانب الدور الايجابي للكتاب في تنمية الوعي السياسي.
فهذا الترابط خفض من قيمة القراءة لذاتها وقيمة الكتاب أيضا، باعتباره وسيلة فكرية وثقافية وعلمية وليس مجرد خطاب سياسي.
وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث أعمق في بنية الثقافة اليمنية، ولكننا نكتفي برصد الظاهرة فقط، والإشارة تأثيرها على قضية القراءة وانتشار الكتاب.
فهذا الشكل من القراءة النفعية أو المؤقتة وهذا الانتفاع السياسي بالكتاب لا يصب في تنمية ثقافية حقيقية ولا يعمل على توسيع المدارك والمعارف وخلق التنوع في داخل المكتبات اليمنية.
نلاحظ كذلك أن هذه السياسة النفعية والإيديولوجية في انتشار الكتاب، انعكست في الرقابة على الكتب وحرية التعبير.
فاستيراد الكتاب والسماح بدخوله كان يخضع لطبيعة الحكم السائد في الشاطرين قبل الوحدة، وللسياسة بعد الوحدة، رغم أن الدستور اعتبر حرية العبير والحق في المعرفة حقوقا عامة للمواطنين.
وبسبب هذه الرقابة، التي لم تكن تخضع لوزارة الثقافة وحدها، بل كأنه الأجهزة الأمنية تتدخل فيها، وربما أنه كان لها النصيب الأوفر من سياسة المنع والمصادرة، رغم أن قوانين الرقابة لم تكن تخولها القيام بهذا العمل.
وإذا انتقلنا من موضوع انتشار الكتاب ومشكلاته، إلى قضية التآلف، فأن الأمر يبدو أكثر سوءاً.
ويكفي أن نشير إلى أن البيلوغرافيات المحدودة التي أعدها بعض المثقفين، بجهود ذاتية، لا تتضمن سوى إعداد قليلة من الكتب اليمنية لا يصل عددها إلى المائة، طبعت في النصف الأول من القرن العشرين ومعظمها طبع خارج اليمن، في القاهرة وبيروت.
وهذه العلاقة كما تتضح منذ البداية، تعكس تنافراً مع قضية التأليف، أو أنها تعبر عن عجز مادي.
فالخوف من الكتابة لازم المثقفين اليمنيين منذ بدايات القرن العشرين، وقد رأينا مثقفين لم تعرف لهم أثار مكتوبة، حتى في هيئة مقالات أو رسائل، أمثال المحلوي والشيخ والدعيس وفضل بعضهم بقاء كتاباتهم مخطوطة وأغلقوا عليها الإدراج.
ونحن لا نجد نسبة معقولة بين إعداد المثقفين والأدباء وإعداد الكتب المطبوعة والمنشورة.
عدم المقدرة المادية على طباعة الكتب كان السبب الآخر لغياب الكتاب المطبوع، فكثير من الأدباء والمثقفين تركوا كتبا مخطوطة ودواوين شعرية تعرضت لإهمال الورقة أو أن بعضهم لم يكن لهم وريث يهتم بنتاجهم.
اذكر على سبيل ما كتبة الشاعر /محمد سعيد جرادة عن الديوان المخطوط للشاعر حامد الجوهري، الذي كان مدرساً في قرية الحسوة في عدن.
يقول الجرادة أنه وجد ديوان الشاعر أو ما بقى من ديوان الشاعر، في دكان صغير في الحسوة، حيث كانت أورقه تستخدم كورق لفافة يلف بها البائع السكر.
هكذا انتهى ديوان الشاعر الجوهري أوراقا ضائعة في لفافات السكر، بعد أن مات الشاعر نفسه بمرض السكر.
وفي مراحل لاحقة، بدأ الكتاب يمثل مركزا في الحياة الثقافية وظهرت بعض المطابع الأهلية، التي كانت تهتم في الأساس بطباعة الأعمال التجارية والإعلانية، وكانت تطبع كذلك بعض الكتب الصغيرة كما ظهرت بعض المطابع التي اهتمت بطباعة الصحف والكتب وكان أشهرها مطبعة ” فتاة الجزيرة “في عدن التي طبعت بعض الكتب اليمنية في الأربعينات من القرن الماضي.
ونلاحظ أن هذه المطبعة لم تستطع أن تكمل ما أعلنت عن طباعته في أغلفة بعض الكتب والمجلات، لاسيما في سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث تعثرت المطبعة بسبب الأوضاع الاقتصادية في زمن الحرب.
لم يكن المردود الاقتصادي للكتاب موجودا، بالنسبة للمؤلف بطبيعة الحال، لأن قوانين الحقوق الفكرية لم تكن قد ظهرت في تلك المرحلة وهو لايزال غير موجود أو مربح حتى بعد صدور قانون الحق الفكري ولا يوجد كاتب مهما ذاعت شهرته يعيش من نتاجه الفكري.
ونشير على سبيل المثال، إلى الشاعر/ عبد الله البردوني الذي كان يقوم بطباعة كتبة على حسابه الخاص، وكان ينفق ما يحصل عليه من مال من الجوائز التي فاز بها لطباعة كتبة ولا يحصل على مردود مالي مقابل مبيعاتها بكفي لإعادة إصدار تلك الكتب.
وسوف نعود لمناقشة قضايا الحقوق الفكرية في مكان لاحق من هذه الورقة. فما نود طرحة في هذا المكان هو بحث العلاقة بالكتاب التي لم تحتل موقعا مناسبا في حياتنا الثقافية، وقد انعكس هذا الأمر على طبيعة التداول والانتشار من جهة، وعلى الوضع البائس للمؤلفين والأدباء الذين يعانون عجزا ماديا عن الطباعة وفشلا معنويا في المغامرة بالطباعة على نفقتهم الخاصة أو العثور على من يمول أعمالهم، باستثناء بعض المبادرات المحدودة للمؤسسات الحكومية التي قامت بالطباعة بشكل بسيط، دون أن تساعد على تثبيت حق المؤلف وتحسين وضعة المادي.