مرت قبل أيام الذكرى الأولى لرحيل الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني، وما زال حاضرا في المشهد الإبداعي العربي وكأنه بيننا يعمل بكل همته ونشاطه.. وكشأن الكبار من المبدعين يرحلون بأجسادهم فقط ولكن يبقى إبداعهم متوهجا لا يخبو.
واستذكرت الصحف والمنابر الثقافية والإعلامية في العالم العربي الراحل مشيدة بإبداعه وبالدور الكبير الذي لعبه في تطوير الرواية العربية وحضورها في لغات العالم عبر ترجمة أعماله إلى الكثير من اللغات الحية، وأيضا عبر دوره في الصحافة الثقافية عبر جريدة أخبار الأدب التي استطاعت أن تكون في فترة وجيزة أحد أهم المنابر الصحفية الثقافية في العالم العربي.
ونظم المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية الخميس الماضي أمسية احتفائية في الذكرى الأولى لرحيل الغيطاني قدم فيها فيلم تسجيلي عن رحلة حياة المبدع الراحل جمال الغيطاني، ومعرض لإصدارات وزارة الثقافة وبعض دور النشر الخاصة.
ولد الأديب الراحل جمال الغيطاني في جهينة، إحدى مراكز محافظة سوهاج ضمن صعيد مصر، حيث تلقى تعليمه الإبتدائي في مدرسة عبد الرحمن كتخدا، وأكمله في مدرسة الجمالية الإبتدائية، وفي عام 1959 أنهى الإعدادية من مدرسة محمد علي الإعدادية، ثم التحق بمدرسة الفنون والصنائع في العباسية.
وفي عام 1969، عمل مراسلًا حربيًا في جبهات القتال، وذلك لحساب مؤسسة “أخبار اليوم”، وفي عام 1974 انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحفية، وبعد 11 عامًا في 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيسًا للقسم الأدبي في أخبار اليوم، وأسس الغيطاني جريدة “أخبار الأدب” في عام 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير.
وفي فترة ما قبل الصحافة من عام 1963 – حين نشر أول قصة قصيرة له – إلى عام 1969 ، نشر ما يقدر بخمسين قصة قصيرة، إلا أنه من ناحية عملية بدأ الكتابة مبكرًا، إذ كتب أول قصة عام 1959، بعنوان “نهاية السكير”.
وبدأ النقاد بملاحظته في مارس 1969، عندما أصدر كتابه أوراق شاب عاش منذ ألف عام والذي ضم خمس قصص قصيرة، واعتبرها بعض النقاد بداية مرحلة مختلفة للقصة المصرية القصيرة.
وحصل الغيطاني على جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980، وجائزة سلطان بن علي العويس عام 1997 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ، ووسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس عام 1987 ، وحصل على جائزة لورباتليون لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية عن روايته “التجليات” مشاركة مع المترجم خالد عثمان في 19 نوفمبر 2005 ، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية (مصر) عام 2007 والتي رشحته لها جامعة سوهاج.
ومن أهم أعمال الأديب الراحل، أوراق شاب عاش منذ ألف عام، الزويل، حراس البوابة الشرقية، متون الأهرام، شطح المدينة، منتهى الطلب إلى تراث العرب، سفر البنيان، حكايات المؤسسة، التجليات (ثلاثة أسفار)، دنا فتدلى، نثار المحو، خلسات الكرى، رواية الزيني بركات التي تحولت إلى مسلسل ناجح بطولة أحمد بدير، رشحات الحمراء، نوافذ النوافذ، مطربة الغروب، وقائع حارة الزعفراني، الرفاعي.
وكشأن المتصوفة الكبار، انشغل الغيطاني بفكرة الزمن وتأثيره الطاغي على المكان، ليأتي الترحيب النقدي بكتاباته المغايرة وغير المألوفة في السرد العربي في ذلك الوقت، مع كتابه الأول “أوراق شاب عاش ألف عام” والتي كتبها مباشرة بعد هزيمة الجيش المصري في يونيو العام 1967، وقفز بالزمن ألف عام، ليصل إلى العام 2967 وكأنه يريد أن يقرأ الزمن القادم وتجلياته من خلال تخيله لعودة المؤرخ المصري الشهير “ابن إياس” ليعلق على أحداث زماننا، وهو الذي عاش انكسار المماليك أمام جيوش العثمانيين ودخولهم مصر.
حيرة الروائي، جمال الغيطاني، ودورانه اللانهائي حول فكرة الزمن واللحظات، التي تنقضي ولا يمكن استرجاعها، سوى بالكتابة عنها، جعلته يرجع بالزمن هذه المرة في رائعته “الزيني بركات”، ما يزيد على خمسمائة عام، ليحكي عن كبير البصاصين في العصر المملوكي “زكريا ابن راضي”، وتعذيبه للمقبوض عليهم، واستخلاص المعلومات منهم بالحبس والضرب حتى وإن كانت تهما ملفقة، في إسقاط سردي سلس، لما يحدث في زماننا، وفي كل زمان من تقييد للحريات، والقبض على صوت الحق.
مقولتة الشهيرة والمأثورة عنه: “جئنا إلى الدنيا وسنمضي عنها، وسنترك آخرين يأملون في قدوم الأيام السعيدة”، تقربنا من عالمه الروحي ونفسه القلقة من الوجود ذاته، فيتعلم الروائي الكبير، الصبر الشديد وإتقان عمله، في نسج السجاد كفن له علاقة وطيدة بالتاريخ والرمزية، فيتخصص في السجاد الإيراني القادم من منطقة بخارى، فهو خريج قسم “نسج السجاد” بمدرسة العباسية الثانوية الفنية، والتي أكملها بعامين في الصباغة والطباعة بكلية الفنون التطبيقية.
وإضافة إلى الزمن يحتل “المكان” بعمارته وحوانيته وناسه، الفضاء الإبداعي الأكبر عند الغيطاني، فمنذ جاء مع أسرته ليستقر به المقام في حارة “درب الطبلاوي”، مجاوراً مقام الحسين ببوابته الخضراء العتيقة التي طالما تخيل الأمير المملوكي “عبد الرحمن كتخدا”، وهو يقف أمامها مع أهالي مصر، لينقبوا عن رأس “الحسين”، وهل هو مدفون أم لا؟، والأسئلة لم تنقطع في مخيلته عن العمارة الحميمة للبشر، والحجارة التي تروي أزمنة لم نعشها، وشهدت أحداثًا لملوك وصعاليك وعوام من الغابرين، ليقبض الغيطاني على تلك اللغة التي تستدعي أجمل ما في التراث العربي بعامية مصرية مشبعة بالفصحى العربية.
وبحث بين الدروب والأزقة وواجهات الحوانيت القديمة، عن الزمن المنسي ولم يعرفه أحد، فمن داخل مساجد القاهرة الفاطمية، خاصة مسجد السلطان “حسن”، الذي يعتبره قمة الإبداع المعماري الإسلامي، يجيء المشروع الروائي الضخم للروائي المصري، متمثلاً في “دفاتر التدوين”، بإصدار الدفتر الأول “خلسات الكرى” حيث نجد أنفسنا أمام تجربة الوجود الإنساني في تجلياته المتنوعة، وكأن شكل كل حضور إنساني مرتبط بمكان ما في العالم، وبمعمار ما يميز هذه النقطة من الوجود في العالم.
يتخذ الروائي جمال الغيطاني في “دفتر التدوين” موقع السارد للأحداث والأماكن والشخصيات المختلفة المشارب والأنماط، فهناك وعلى مسافة من بصيرته وقلبه: أصدقاؤه في الدقي والعجوزة، وبدايات هذه المناطق التي لم يكن لها وجود قبل ستينيات القرن العشرين، وتجوله في دروب الذاكرة لاستدعاء وجوها حميمة وحبيبة للأدباء الراحلين نجيب محفوظ وكامل الشناوي وعبد الرحمن الخميسي.
وكانت الهيئة المصرية العامة للكتاب قد أصدرت “الدفاتر السبعة” في مجلدين بمناسبة اتمام الكاتب جمال الغيطاني عامه السبعين ، بينما بدا صاحب جائزة النيل في الآداب مشغولا في كتاباته الأخيرة بفكرة “الوداع” كما يتجلي في “دفتر الدفاتر” الذي تضمن عنوانين دالين:” في وداع اشياء” و”في وداع اماكن”.
وبلغة بالغة العذوبة والصفاء استدعي جمال الغيطاني في “وداع اماكن” طرفا من ذاكرة المكان وهو في فراشه بالمستشفى وتحدث عن “حي المهندسين” ، واستدعي بدايات هذه المنطقة التي لم يكن لها وجود قبل ستينيات القرن العشرين وتجول في دروب الذاكرة ما بين أحياء مثل “الدقي” و “العجوزة” ووجوها حميمة وحبيبة للأدباء الراحلين العظام نجيب محفوظ وكامل الشناوي وعبد الرحمن الخميسي.
لا يدري جمال الغيطاني الذي جاء طفلا صغيرا من قرية جهينة للقاهرة وابصر الدنيا من “درب الطبلاوي” ، متى استمع أول مرة الى اسم “أم الغلام” ، لكنه منذ ذلك الزمن البعيد وهو موقن كما يقول من “وجود سيدة تهيمن على المكان على الطريق المؤدي الى ضريح الحسين”.
وجمال الغيطاني صاحب “رسالة البصائر في المصائر” كان من “خبراء العمارة المعدودين ليس بالمعنى الأثري او التاريخي ولكن بالمعنى الفلسفي والصوفي”، وله جولات وبرامج تلفزيونية وقراءات ثقافية عميقة في شارع المعز والجوامع “والبيمارستانات” والمدارس القديمة حيث كون الكاتب الروائي الكبير رؤيته منذ طفولته.
واذ اعتبر الراحل أن “العمارة اقرب الفنون للرواية” فانه استلهم منها كل طريقته في التفكير ، حتى انه قال عند تسلمه وسام العلوم والآداب الفرنسي من درجة فارس : “اهتمامي بالعمارة هو لأن الرواية بنيان وعشقي للموسيقى لأن الرواية إيقاع”.
ويبقى جمال الغيطاني أحد الأسماء الخالدة في الأدب والأبداع العربي وأحد الأسماء التي لا تتكرر كثيرا.