علي جهاد
يحرص إعلام البترودولار الخليجي، بجناحه السعودي الليبرالي، على بثّ دعاية تقوم على أن أمريكا، «الأمة غير المستغنى عنها» بتعبير ولي نصر، تنسحب من منطقة الشرق الأوسط، وتتخلى عن حلفائها التقليديين في مشيخات وممالك وإمارات النفط والغاز لتفسح المجال أمام النفوذ الإيراني، للتوسع على حساب السعودية ودول الخليج (الفارسي).
ورغم انتشار هذا الخطاب في كل الإعلام المموّل خليجياً، إلا أنه حضر بشكل أكبر وأوضح في الإعلام المموّل سعودياً. لكن العدوان الهمجي الذي شنّته السعودية على اليمن بذريعة «دعم شرعية» الرئيس اليمني المنتهية مدة ولايته، عبد ربه منصور هادي، عن طريق تحالف عسكري ضمّ دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء سلطنة عمان، والأردن ومصر والمغرب، يسلّط الضوء على حقيقة العلاقة السعودية الأمريكية، والدور الأمريكي المستجد ــ القديم في المنطقة.
أخذ الخطاب منحى تصاعدياً منذ تولي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة وقيادته انسحاباً أمريكياً من العراق، من دون تأمين قواعد عسكرية حتى، حيث رأت السعودية في ذلك تسليم البلد لإيران، وتواصل ذلك لاحقاً في تخلي أمريكا ــ مجبرةً وفي اللحظة الأخيرة ــ عن الرئيس المصري حسني مبارك، ومن ثم في العمل بتجاوز «الخط الأحمر»، الذي أعلنه بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، ووصل إلى قمته مع التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران.
لكن كيف يستقيم هذا الحديث المتواصل عن الإنسحاب الأمريكي من المنطقة، في ظل الدعم غير المشروط وغير النهائي الذي تقدمه الإدارة الأمريكية للسعودية في حربها البربرية على اليمن؟
يوضح الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، ميكا زينكو، وهو واحد من الباحثين النقديين القلائل في شؤون الأمن القومي الأمريكي، أن «هذه الحرب الجوية هي حرب يستطيع أوباما وقفها مباشرة إذا قطع دعم أمريكا الكاسح والمستعجل والحيوي المباشر».
وفي تدوينة أخرى يفصّل زينكو، في تلك المنشورة في سبتمبر من العام الماضي، الدعم الأمريكي المقدّم للحرب، حيث يشمل «تعبئة الوقود الجوي للطائرات السعودية، ودعم بحث وإنقاذ قتالي (تم انقاد طيارَين سعوديَّين تحطمت طائرتهما المروحية في خليج عدن)، وإرسال أربعة وخمسين محللاً استخبارياً للمساعدة في تحديد الأهداف، ومضاعفة صادرات الأسلحة، والدعم المقاولاتي لدول مجلس التعاون الخليجي»، إلى جانب المسارعة في توقيع العقود لتوفير الدعم اللوجستي للحرب، بما فيها عقد بيع للذخيرة بقيمة نصف مليار دولار في نهاية يونيو 2015م، وعقد جديد لبيع ما يقارب 120 دبابة «إبرامز»، وعشرين آلية إنقاذ. وقد أبلغ البيت الأبيض الكونجرس بقيمة تلك الصفقة، الأسبوع المنصرم، التي فاقت مليار دولار (أفصحت صياغة البيان الصحافي عن أن 20 دبابة هي لتبديل الدبابات المدمرة من قبل الجيش اليمني واللجان الشعبية، لكن على الأغلب فإن الصفقة هي لاستبدال الدبابات المدمرة، بناءً على تعداد بسيط لعددها في الفيديوات المنشورة من قبل أنصار الله).
وليس من الصدفة أن إعلان العدوان على اليمن تم عن طريق السفير السعودي في أميركا، عادل الجبير، إذ إن الدعم الأمريكي المباشر والممكّن لشنّ هذه الحرب يجعل من توصيفها كحرب أمريكية – سعودية هو التوصيف الأدق والوحيد لحقيقة الأطراف الفاعلين فيها. أحد المسؤولين في وزارة الدفاع صرّح بالآتي: «لو كان السعوديون مستعدين للتدخل، فإن تفكيرنا أنه يجب أن نشجّعهم. لم نكن نحن لنرسل جيشنا، هذا من المؤكّد».
هذا التصريح على بساطته، يختزل الإستراتيجية الأمريكية في عهد أوباما: عدم التدخل العسكري بالأصالة، ولكن حضّ الوكلاء كالسعودية على القيام بدور فاعل أكثر. من هنا نستطيع أن نفهم المشاركة والدعم اللانهائي، واللامحدود، الذي تقدمه الإدارة الأمريكية للعدوان السعودي على اليمن. لا يعني ذلك بالطبع رضى سعودياً بالدور الذي تشجعهم عليه الإدارة الأمريكية، فهم يتمنّون لو قامت أمريكا نفسها بهذا الدور الذي يسمّيه أوباما «الركوب بالمجان». (هل كان السيد نصر الله مخطئاً عندما وصفهم بالتنابل، ما دفعهم إلى القيام بدور تدميري أكبر؟).
وبعد ما يقارب سنة على العدوان، أفصحت صحيفة «نيويورك تايمز» عن أن قرار الحرب تمّ اتخاذه في البيت الأبيض، حيث شاور عادل الجبير أوباما، وسرعان ما حصل على موافقته، قائلاً إنه «لم يكن هناك كثير من النقاش الفعلي».
في الحقيقة، فإن الدعم الأمريكي يفوق حتى الحملات العسكرية الإسرائيلية على غزة، حيث تطلق الإدارة الأمريكية اليد التدميرية الصهيونية في البداية، وتعطيها فترة زمنية معينة لتحقيق أهدافها، لأنها تعرف أن الدعوات المعارضة ــ من ضمن أسباب أخرى ــ ستتصاعد مع مضيّ الوقت.
في الحالة السعودية، لا يوجد أي مؤشر على ضغط أمريكي حقيقي لإيقاف الحرب أو التخفيض من وتيرتها. بعد الغارة السعودية على إحدى المدارس غير الرسمية في صعدة ومقتل عشرة أطفال، وتصاعد دعوات استنكارية في الصحف الغربية (افتتاحيّتا «غارديان» و«نيويورك تايمز» كانتا تتحدثان عن الدعم الأمريكي للحرب)، استخدمت الإدارة الأمريكية وكالة «رويترز» لنشر خبر مضلل مفاده أنها «سحبت» أربعين مستشاراً من أصل الخمسة والأربعين المسؤولين عن «المساعدة» في تحديد الأهداف في «خلية التخطيط الموحدة المشتركة». ولكن عند التدقيق في الخبر يتضح أن «سحب المستشارين» تمّ في شهر يونيو، فكيف استمرت الحملة الجويّة السعودية على نفس الوتيرة في ضوء جوهرية الدعم الأمريكي؟ الثنية في التسريب الأميركي هي أن المستشارين الاستخباريين تم نقلهم فقط من السعودية إلى البحرين.
ويتوازى الدعم الأمريكي الجوهري للعدوان السعودي مع محاولة للنأي بالنفس عن الحرب؛ مثلاً تجد المسؤولين الأميركيين يدعون «كافة الأطراف» إلى إنهاء الأعمال العدائية، بينما أمريكا هي فاعل ـ وربما تكون أهم فاعل في أحد طرفي الحرب. السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، سمانثا باور، غرّدت على موقع «تويتر» بأن «الهجمات على المدارس والمستشفيات والبنية التحتية في اليمن يجب أن تنتهي»، فيما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن المسؤولة نفسها، قبل أشهر عدّة، في آذار، أنها كانت من المشجعين للدعم العسكري الأمريكي، لأن ذلك يعني «ضحايا مدنيين أقل».
الرجل المسؤول عن السياسة الخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط في البيت الأبيض، روبرت مالي، بكل صفاقة صرّح بأن «هذه ليست حربنا»، حتى الصحافة الأمريكية والغربية حينما تنتقد الإدارة الأمريكية فهي ضمنياً تقلل من مسؤوليتها، فيما هي مشاركة فعلياً في الحرب، والأماكن المستهدفة يتم اختيارها عن طريق محلليها الإستخباريين.
المحصلة هي ربح صافٍ للإدارة الأمريكية؛ هي تحقق مصالحها وتحارب إيران لكن من دون أن ترسل جيشها مباشرة وتصرف مليارات الدولارات، وتتنصل من المسؤولية عن الدمار الهائل والآلاف من الضحايا الأبرياء.
بطبيعة الحال تعرف السعودية كيف تريد الإدارة الأمريكية وحلفاؤها التنصّل من مسؤوليتها، فيركّز المسؤولون السعوديون المحتكون بالصحافة الأجنبية على الدور الأمريكي والغربي المركزي في العدوان. عادل الجبير (المترجم الذي رقّي إلى وزير خارجية) كان حريصاً على إبلاغ صحيفة «تيليغراف» والإعلام البريطاني في يناير 2016م ــ بعد قصف أحد المستشفيات التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود ــ بوجود مستشارين بريطانيين في غرف التحكم للمساعدة في اختيار الأهداف، مصرّحاً «طلبنا من عدد من الدول الحليفة أن يأتوا ويكونوا جزءاً من مركز التحكم. أنا متأكد من أنهم على علم بقائمة الأهداف».
كذلك بشّر الجبير قناة «سي. إن. إن.»، بعد أيام من بداية العدوان، بعظم الدور الأمريكي، وأن السعودية «تنسق مع الولايات المتحدة دقيقة بدقيقة عملياً». هذه هي العروبة التي يبشّر بها آل سعود الأمة العربية.
أستاذ العلوم السياسية مارك لنش يقول إن أفضل طريقة لفهم المواقف العلنية عن «تخلي أمريكا» و«الحنق عليها»، هي تفسيرها على أنها لعبة مفاوضة حيث «يشتكي الشريك المعتمد من الخوف من التخلي عنه للضغط على حاميه لتقديم مزيد من الدعم المالي والسياسي والعسكري، ويقوم الشريك المعتمد عليه بمحاولة تحقيق هذه المطالب من دون تقويض مصالحه الرئيسية». وعلى الرغم من أن لنش محقّ في تصوير المواقف السعودية على أنها وسيلة في لعبة مفاوضات لتحقيق مكاسب أكبر، لكنه يبالغ في رسم التفاوت والاختلاف بين المصالح السعودية والأمريكية (يفترض مثلاً أن أوباما كانت عنده مشكلة مع القمع الذي اتخذ صبغة طائفية بحق الإنتفاضة البحرينية). المصلحة السعودية التي تفاوض عليها هي في تدخل أمريكي أكبر لتحقيق نفس المصالح، فيما تدفع أمريكا باتجاه اضطلاع السعودية بدور فاعل أكثر لتحقيق مصالحها في منطقة ليست أمريكا في وارد التدخل فيها بجيوش جرارة، أو حملات عسكرية ضخمة تستهلكها بشرياً ومادياً.
الحقيقة التي ثبتتها الحرب على اليمن هي أن الولايات المتحدة لم تنسحب، ولا تفكر في أن تنسحب من المنطقة، ولكن هي ستدفع بوكلائها لشن الحروب. ينقل الصحافي سامويل أوكفورد عن المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية أنهم كانوا «يحلمون» بأن يبادر الجيش السعودي المسلح أمريكياً في كافة قطاعاته إلى شنّ حرب كهذه. ليست هذه الحرب هي حرب أمريكا على اليمن فقط، ولكنها هي منتهى آمالها أيضاً. إن كان أوباما قد نجح في إطلاق اليد التدميرية لآل سعود على البنية التحتية لليمن وشعبه ومقدراته، فإننا نعلم يقيناً أن من كان ينتظر أمريكا لتدافع عنه، ومع ذلك لم يتحرك إلا بغريزة الخوف ليقصف من عشرات آلاف الأقدام في أعالي السماء، سيتكسر جبروته أمام الحفاة على الأرض الذين اختاروا الصمود ــ وصمدوا ــ وسط الحصار، وهم لا تنقصهم العزيمة ولا المعرفة في الحرب والقتال.
*”الأخبار اللبنانية”.