مدينة الضباب

أمل محمد الحداد

رددت أبياتا من الشعر… اجتمعت فيها عذوبة اللحن وأصالة المعنى .. بينما هي تمر في أحد الشوارع الحجرية في المدينة الضبابية, وعندما وصلت إلى مبنى الصحيفة – متوسطة الشهرة- التي تعمل بها, كانت قد اقتنعت بفكرة نشرتك الأبيات لكل الناس.
هل فهم أحدهم خطأً ؟!…ربما نعم…ربما لا…من يهتم…غد أو بعد غد سَيُعرف المعنى حقاً…
سبق وسمعت أحد الشعراء وهو يتكلم عن أن الخريف بالنسبة له أجمل الفصول؟!..وأن تنوع الألوان فيه بديع, بدا رأيه مختلفاً في تلك الأيام حيث كان أغلب الكلام عن أن الربيع ببهرجته وازدهار نباتاته هو أجمل الفصول…
هه.. هل حقاً.. الخريف جميل.. قد يكون ..ستحاول مها ملاحظة ذلك في الأيام القادمة…فنضرة الربيع قد بدأت بالخفوت وتسرب الفصل الجديد قد بدأت ملامحه بالظهور.
أوراق خريفية  كانت تزورها من حين لآخر في مكتبها؛ فكرت بإحكام إغلاق النافذة قبل الرحيل ..لكن لمَ ترفض مثل هؤلاء الزوار الطيبين..
بعد أسابيع.. كانت قد اعتادت على أن تطل من نافذتها لترى تأثير الصباح على الناس والشارع، وأسلوب اليوم الجديد في إلقاء التحية عليهم وإليها وكذلك متابعة لمسات فصل الخريف على السحب المرسومة أمام الشمس كشال عتيق, ثم على أغصان الشجر وخطوات الناس ورتابة أنفاسهم…لابأس ..يبدو جميلاً ..حتى مع بعض النسمات شديدة البرودة أحياناً , فهذا هو الخريف عموماً…من يتوقع الجمال دوماً…سيكره كل ما يراه تقريباً.
من النادر أن يزورها أحد في مكتبها.. لكن النادر معناه أنه يحدث أحياناً، جلست زميلتها في العمل الأكبر عمراً والأكثر بدانة من بين كل الموظفين على الكرسي المقابل لها, وتبادلتا الحديث عن بعض ما يشغلهما من أمور الحياة أو من المسائل المالية المشتركة بينهما بسبب مكان العمل.
و….وسط الحديث ..تذكرت أحد تلك الأوراق الزائرة لمكتبها، شعرت ببعض الفضول وشيء من السعادة الغامضة وهي تفكر بمعرفة رأي صديقتها عن تلك الأوراق الزائرة من ذلك الفصل المقترب بتأن، فأرتها أكثر الأوراق لفتاً لانتباهها… لم تر الصديقة فيها شيئاً مهماً…واقتنعت مها بذلك.. اقتناع غير كامل؟!
ولأن الأيام لا تنتهي ولا تتوقف حتى هذه اللحظة.. فكل مرة يُقبل علينا الغد في وجه اليوم الجديد حاملاً رسائلاً عديدة.. بعضها أكثر لطفاً.. بعضها أكثر حيرة.. بعضها أكثر تذمراً.. بعضها…
أمسكت مها  بأصبعها ساق ورقة مشققة على شكل وجه مكتوم الغضب وتأملتها…. أعليّ أن أتعلم لغة هذه الأوراق.
وتساءلت رسمت هي على إحدى أوراقها البيضاء ..رسماً مشابهاً لإحدى تلك الرسائل.. وبجوارها علامة استفهام ؟!…
من يكون ..هل هو.. هو؟!
قبل فترة حضرت مؤتمراً علمياً ..تكلم عن “أهمية التنوع في الطبيعة”…كان هو محاضراً، قلقاً ، دقيقاً، وله أسلوب متميز في طرح موضوعه…لم تتكلم هي كثيراً.. هل تكلمت أصلاً.. في الأغلب سألت سؤالا.. أو سؤالين ؟!
دخلت البيت ومرت بالمرآة الطويلة المثبتة على الجدار بدون اهتمام وأدلفت إلى صالة بيتها ذات الأثاث البسيط ورمت حقيبتها على أحد الكراسي ,ثم توجهت نحو النافذة؛ لتسدل ستائرها الشفافة.. سقطت الحقيبة على الكرسي وسقط أكليل من الزهر المجفف.. كان صغيراً وخفيفاً وجميلاً وضاحكاً.. لكنه سقط…واختفى تحت إحدى قطع الأثاث القليلة والمبعثرة في الصالة الصغيرة.
عادت لتحمل حقيبتها وهي شاردة تتذكر ملامح الأحداث التي مرت بها منذ عام تخرجها إلى هذا اليوم، أين كانت الفرص الضائعة ؟ وما هي الاختيارات الصحيحة المتاحة أمامها؟…. امتدت يدها لتمسك بحزام الحقيبة ..و.. آه.. ما كان هذا؟؟
غصن صغير من الأشواك كان بجوار حزام الحقيبة.. على الطاولة المجاورة.. من أين جاء شيء مثل هذا؟!..خطرت ببالها فكرة غريبة.. لكنها استبعدتها على الفور.
وفي اليوم التالي ..وصلت لمقر عملها على صوت شجار متصاعد.. موظف جديد طموح ومثالي.. قريباً سيعرف أن هذا المكان ليس مناسباً لتلك القيم ،فإما أن يجد مكاناً آخر ليعمل فيه.. أو ليجد قيما أخرى تناسب العمل.. في أي من الاختيارين أنتِ ؟! … سألت نفسها  وهي تصعد الدرجات الموصلة إلى المكتب.
جلست على المكتب ونظرت إلى لوحة صغيرة بجوار أوراقها ،كانت غنية بالألوان ،متوهجة بدفء ساحر.. هه.. في وسط هذا الظلام والقسوة.. ما أضعف الصور بدون المعاني.
لم يعد من الغريب أن تستلم هدية جميلة أو لئيمة.. من مجهول.. لكن كيف توقفه؟!…كيف يمكن الحوار معه ؟..أمسكت القلم وأوشكت أن تكتب على الورق بغض النظر عن النهاية.. لكنها تراجعت.. وتساءلت هل هناك خطأ ما ؟!
تذكرت أكليل الزهر الذي وجدته يوم أمس.. بعضه كان منكسراً مما أعطاها حزناً كبيراً، هل أهملت شيئاً مهماً مثل هذا ؟ لم تكن تقصد أبداً، هل يمكن أن يكون مثل هذا سببا؟! وهل ينبغي أن يكون هذا سببا؟!
ربما.. لابأس بإعطائه فرصة للوضوح أكثر؛ لتعرف ماذا بعد؟.. أو.. لتعرف لماذا لم يتوقف بعد؟!…فهذا ألاشي.. لا يمكن أن يكون  ذا أهمية إذا استمر بهذه الطريقة؟ تذكرت وماذا لو لم يكن هو ..هو..؟! هل هناك ما يضر؟ ..”فرصة للحوار”.. كيف يمكن أن يأتي منها ضرر؟!
بعد أيام.. سمعت ما كانت تنتظره أو تتوقعه, طرقات خفيفة على الباب ،كانت قريبة من النافذة استرقت نظرة إلى أشعة الشمس المتسللة من بين المباني والساقطة على ركام الثلج في شارع حيها المتقادم, طيف من عصر الملوك والأمراء الذي عاشته هذه البلاد قبل مائة عام تسلل ليحجب الرؤية أمام عينيها من أحد أعماق الذاكرة، كأنها دعوة للتفائل.. ههه..أي شرود عظيم مررت به ..ربما عليك تذكر أنه كان عصر السحر والشعوذة كذلك.. توالت الطرقات بقوة أكثر، فأسرعت لتجيب وفتحت الباب ثم استلمت المغلف الأنيق، شكرت الساعي وودعته ،وضعت الظرف على الطاولة متساءلة عما يمكن أن يحتويه.
فتحت المغلف وأخرجت الورقة الوحيدة التي بداخل الظرف ،فإذا بها صورة واحدة لعدد من المخلوقات المقتولة غرقاً أو خنقاً…ملامح الموت كانت مكتملة على الكائنات.. بعضها كانت متعفنة …أحست بالاختناق والفزع والغثيان، ورمت الورقة بعيداً…
كانت يدها ترتجف وهي تحاول الاتصال بصديق لها، هو في مكانة الأخ الأكبر بالنسبة لها.. أدركت أخيراً أنها تحتاج للمساعدة..
قالوا لها أن الوصول للعنوان الحقيقي للمرسل لن يأخذ كثيرا من الوقت، وإزعاجها بمثل تلك الوسائل من الصعب أن يستمر بعد الآن.
بالرغم من ذلك ستظل استفسارات عديدة تلح عليها لوقت غير قصير من الزمن.. كيف كان بإمكان نفس الشخص أن يكون صافياً عذباً كأنه صوت بلا شوائب؟ أو كأنه قلب طفل لم يعرف سكناً سوى السماء، ثم ينتقل بكل يسر إلى طين ثقيل بنفايات الناس أو إلى حوار الأجسام الميتة, هل كان يقدر على تنفس الهواء النقي طوال الوقت؟…أم أن هذا هو ما سار عليه طوال عهده؟…وما كان ليقدر أن يكون شيئاً آخر غير نفسه ،وهل من الممكن أن تكون هذه هي نفسه؟
ستحتاج لكثير أو قليل من الوقت لتنسى أو لتبقى تلك الأيام ذكرى مجردة من الإحساس، فالكراهية عبء لا تريد تحمله, والمحبة لمسة حنونة لا يصح أن ترتبط إلا بمن يستحقها..

قد يعجبك ايضا