وترجل مكّي .. رجل الدولة
أحمد يحيى الديلمي
أخيراً ترجل الفارس بعد عمر مديد حافل بالنضال إذ لا تخلو ساحات البذل والتضحية وأروقة وزارات ومؤسسات الدولة من بصماته المفعمة بالحب للوطن بجغرافيته الواسعة كما اختطها الأجداد منذ آلاف السنين عبر الحضارات التي تعاقبت على اليمن ولعبت دوراً بارزاً وهاماً في إقامة أركان الحضارة الإنسانية منذ إشراقه فجر الحضارة الأول .
لعب اليمنيون دوراً مشرقاً في الانتقال بالإنسان من العصر الحجري وحياة الرعي البدائية إلى عالم التمدن والزراعة وأقيمت المدن الزاخرة بالقصور وكل إبداعات الفن المعماري الأصيل ، في وقت كانت فيه البداوة على الآخرين من حولنا يقطنون الخدور يتنقلون في مجاهل الصحارى والفيافي والقفار بحثاً عن الماء والمرعى ، هذا الفارق الحضاري الكبير سبب التكالب على اليمن وحالات التآمر التي لا أعتقد أنها ستقف عند حد معين لأنها حلقات متصلة ببعضها صادرة عن بشر يبطنون الحقد والكراهية لكل ما هو يمني نتيجة الإحساس بالدونية والرغبة المتأصلة في فرض الهيمنة والتحكم، هذا الأمر الخطير يتطلب منا نحن اليمنيين الارتقاء إلى مستوى المسؤولية والإسهام المباشر من كل مواطن يمني حر شريف في البناء والتنمية لنعيد لهذا البلد مجده وحضارته واكتساب القوة الكافية القادرة على إسقاط رهانات الأعداء المتربصين .
المقدمة مقتبسة من محاضرة طويلة للمرحوم الدكتور / حسن محمد مكي ، ألقاها في نادي الخريجين بصنعاء عام 1975م بعنوان (مستقبل اليمن وحلقات التآمر) ألقى المحاضرة باعتباره رئيساً لمجلس السلم والتضامن ، كان لابد من الاسترشاد بها للتعريف بمواقف المرحوم الوطنية وقراءته المبكرة لدوافع وملابسات العدوان الهمجي السافر الذي يتعرض له الوطن اليمني من قبل السعودية والدول التي تجحفلت معها ، لأن الرجل كشف منذ عقود غايات الأعداء المتجذرة في قعر صدورهم وهي المواقف التي جعلت المرحوم محل استهداف دائم ، وصل إلى الاعتداء المباشر عليه ومحاولة تصفيته جسدياً عندما كان يشغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء في حكومة دولة الوحدة ، مع ذلك لم تثنه المؤامرة عن الاستمرار في أداء دوره النضالي موقناً بأن عصابات التخلف الموغلة في العمالة والتبعية للأعداء غير قادرة على إيقاف عجلة الزمن أو إجهاض المشروع الحضاري لليمن واليمنيين، لأن عقول هذه الجماعات محنطة ، وأفرادها مسلوبي الإرادة باعوا نفوسهم للشيطان واستسلموا لبريق المال المدنس وهذا ما جعله يدعو كل اليمنيين إلى التماسك والتلاحم للوقوف صفاً واحداً في وجه مخططات الأعداء والتمسك بالثوابت الوطنية الجامعة هذه كانت من القناعات الثابتة عند الرجل ، كان يرددها في كل المحافل دون خوف أو وجل .
في وصفه لجماعات الإرهاب والتطرف وكيفية مقاومة الوباء الخطير رد على إذاعة (B.B.C) :
( هذا الفكر الإرهابي المتطرف هو النبتة الشيطانية التي زُرعت في جسد الأمة بدقة وإتقان وأوكلت إليها مهمة استهداف الإسلام بتقويض فكره ، وتشويه مضامينه من داخله ، وكم أحس بأسى بالغ لأن دولاً تدعم هذا التوجه وتحتضن أفراده ، وجعلهم وسيلة للنيل من بعض الأنظمة المخالفة وهنا مكمن الخطورة عندما يتسع جدار الخطيئة وتقوى هذه الجماعات حينها سينقلب السحر على الساحر . والمعالجة الحقيقية من نظري لا تحتاج إلى حرب كونية بقدر ما تتطلب التعاطي مع الدين بأفق حضاري شامل يستند إلى فهم أحكامه بشكل مستنير والتخلي عن فكرة التوظيف النفعي للأحكام والسعي إلى تجسيد الأحكام النقية الخالية من التعصب والأثرة والتفرد وغرسها في السلوك اليومي للمسلم وممارساته الحياتية بهدف التطهر من الأوزار والآثام ، وكلما علق بمعاملات الناس مع بعضهم من أدران . الإشكالية المخيفة تكمن في الدول والجماعات التي تحاول فرض وصاية على الدين بغرض تحقيق الهيمنة وفرض قوة الحضور بإلباسه ثوب قداسة مزعومة )
أكتفي بما أوردته من كلام المرحوم الدكتور حسن . وفيها دلالة واضحة على رؤيته المستنيرة ومواقفه الشجاعة التي ظل يعلنها لا يخشى المرجفين وخفافيش الظلام لأنه كان شديد الإيمان بالله محباً للوطن إلى حد العشق ومنهما استمد قوة الثبات .
رحم الله الدكتور حسن مكي المولود في صبيا إحدى مدن المخلاف السليماني منذ نشاء في مدينة الحديدة وأعطاها حبه إلى حد القدسية ومن يريد أن يعرف المرحوم وسيرته العطرة وعطاءه المتميز يمكنه زيارة منزله المتواضع رغم المناصب الهامة التي تقلدها ومنها رئاسة الحكومة إلا أنه رحل عن الدنيا الفانية لا يمتلك في صنعاء سواه ، وهنا تكمن عظمة الرجل إذ عاش أكثر من خمسين سنة يتنقل في المناصب عفيف الضمير نظيف اليد مخلصاً للوطن اليمني بترابه وأرضة وإنسانيته ، رغم أن الأبواب كانت مشرعة أمامه إلا أنه فضل الالتحام بالوطن ومعايشة هموم أبنائه إلى أن توقف نبض قلبه ، واسلم الروح لبارئها.
رحم الله الفقيد، فلقد كان بحق من رواد بناء الدولة اليمنية الحديثة وعزاؤنا للأخ محمد وإخوانه والدكتور أحمد وجميع إخوان الفقيد . وإنا لله وإنا إليه راجعون.