عبدالوهاب الضوراني
عندما يجوب العم مجاهد أرصفة وشوارع حارتنا، أو يكون متواجداً هنا أو هناك، وتطأ قدماه يقف له المارة حتى كبار السن على الفور للاحتفاء به، والتودد إليه، حتى البلاطجة، وأسوأ الناس يبادلونه أيضاً بدورهم عندما يشاهدونه عدداً من عبارات المودة والاحترام، فالجميع يعتبرون العم مجاهد بأنه مثلهم الأعلى، وينظرون إليه كأنه شخصٍ استثنائي ليس كبقية البشر، هبط عليهم كالملائكة من السماء لإعمار الأرض، وإصلاح ذات البين.
كما يتذكرونه أيضاً عندما كان جندياً ومقاتلاً شرساً وشجاعاً في إحدى ثكنات الجيش والذي يزعم أنه عندما كان شاباً خاض في الجبهة مع رفاقه أفراد القوات المسلحة البواسل العديد من المعارك المشرفة التي كاد يسقط شهيداً في إحداها.
يستمد الرجل العم مجاهد بريقه وجزءاً من نفوذه وجاذبيته وحب الناس له من خلال تواضعه ومواقفه الوطنية، وتعدد خدماته، وحلاوة لسانه أيضاً الذي ينطق دائماً سكر حتى عبده ربل، المولد الذي جاء متسللاً مع أطفاله وأمه العجوز الثرثارة بائعة اللبان والبخور، ونازحون آخرون من أجناس وقوميات مختلفة جاءوا معه أيضاً على متن الزورق الذي أقلهم في رحلة جماعية وخرافية غرق منهم خلالها من غرق، وصار وجبة دسمة وشهية للدلافين والحيتان ومن سلم وكتب له عمر جديد صار هدفاً للقراصنة، وتعقب قوات خفر السواحل الذي عندما يصادفه قادماً أو مغادراً يبادره بدوره بحفاوة وبلكنته المتعثرة والمعقدة التي تجعله أغلب الوقت في أسوأ المواقف وأكثرها إثارة للتهكم والاستفزاز “أنت يا أستاذ رجل عظيم، تشبه الرئيس بري، والزعيم الأفريقي مانديلا”.
للعم مجاهد الكثير من المقولات والأمثال الشعبية الشهيرة التي يتعاطاها الناس كثيراً خصوصاً في المقايل وجلسات القات لعل أكثرها انتشاراً وتداولاً بينهم مقولته الشهيرة : “الثقافة هي لغة الشعوب وجسر التواصل بينها، وهي في نفس الوقت تعتبر زاد العقول تماماً كالخبز الذي هو زاد البطون”.
في أعياد الثورة أو الوحدة يشاهده الناس وهو يعتلي المنصة، ويلقي على الجماهير الغفيرة والمحتشدة في ميدان التحرير عدداً من الخطب والقصائد الوطنية “إذا الشعب يوماً أراد الحياة”، وأنه حمل البندقية يوماً وتوجه إلى الجبهة عندما تعرض الوطن يوماً لإحدى الدسائس والمؤامرات في محاولة لاستهدافه، وإجهاض وحدته ونهضته التنموية، وسلامة أراضيه، وعندما عاد من الجبهة حاملاً أكاليل الغار التحق لتوه بأحد معسكرات التدريب الصباحية، بالإضافة إلى ممارسة العديد من الأنشطة والفعاليات التوعوية والتطوعية الأخرى التي كان يمارسها دائماً في أوقات فراغه عندما يرتفع صوته في إحداها والناس حوله كلهم آذان صاغية “ما قيمة الإنسان أن ينتمي لوطن لا يؤمن له ولأطفاله حياة كريمة”، وهي الشعارات والمبادئ التي كان العم مجاهد ينتهجها دائماً في حياته، والتي كانت تعرضه أحياناً كثيرة للمساءلة والتحرش والإساءة أيضاً من الذي يسوى والذي ما يسواش.
عندما اتهمته بعض الجماعات والعناصر المتشددة في حارتنا بالتطرف، وممارسة بعض الأنشطة والأفكار غير المرغوب فيها، وأنه يحمل في رأسه مشاريع عنصرية وتقدمية تهدف لإثارة البلبلة، وزرع الفتنة والكراهية بين أوساط الشباب، وأنه لو تمادى في ممارسة تلك الأنشطة والحماقات والتصرفات الطائشة على هذا النحو المتفاقم سيؤدي الوضع إلى وقوع انقلاب في الحارة، وقلب الموازين وكل المعادلات والأعراف السائدة في الحارة وبين الناس رأساً على عقب، عندما استدعاه يوماً مأمور قسم الشرطة، ومتنفذون في جهاز أمن الدولة، وأمطروه لتوه وابلاً من الاتهامات والخبابير الأخرى الفارغة بغية إثارته والعبث بأعصابه “يا أستاذ مجاهد لقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، وأصبحت تشكل خطراً على أمن الدولة، ومطلوب أمنياً”، ويوماً يقع بصره وهو في قهوة التركي والناس حوله على حبيبة بنت الشهيد قحطان العسكري بطل الحصار وملحمة السبعين يوماً الذي سقط شهيداً وبندقيته في يده، الناشطة والمثقفة الوحيدة في حارتنا التي تعطي الفقراء وأبناء الشهداء محاضرات ودروساً توعوية مجانية فيشيعها الرجل قائلاً حتى تلاشى طيفها وسط الزحام: “أنا فخور بهذه الفتاة إنها لا تتخير عن والدها الشهيد البطل وتعتبر نموذجاً للفتاة اليمنية الشجاعة والمكافحة”.
هذا الإنسان العجيب حتى وهو في أسوأ المواقف وأكثرها قلقاً وإزعاجاً تجده ثابتاً رابط الجأش، وواقفاً على قدميه كالجبل الذي لا تهزه ريح، عندما وشت به يوماً زوجته الثانية للعاقل منافسه وعدوه اللدود بتهمة أنه يحتفظ في بيته بوثائق ومنشورات في منتهى الخطورة، وأنه يقرأ كثيراً لماركس، وتونغ، وجيفارا، وزوربا اليوناني، عندما استدعاه العاقل للمثول فوراً بين يديه وواجهه لتوه بلائحة الاتهامات الكيدية المقدمة ضده والتي أضاف إليها من تلقاء نفسه من الأراجيف والأكاذيب والنوايا السيئة الشيء الكثير، عندما ضج العم مجاهد بالضحك فجأة كأن مساً أصابه ثم ما لبث أن أدار له ظهره وهو لا يزال يقهقه بأعلى صوته ويردف في أعقابه قائلاً باستخفاف: “إنه وضع سيء والأسوأ فيه أن جاهلاً مثلك يقارع ويجادل مثقفاً ومناضلاً مثلي”، ويومٌ كان استثنائياً وفارقاً أيضاً في تاريخ حارتنا عندما شاهده الناس بأفواه فاغرة، ووجوه مقطبة، وهو يتصبب عرقاً، ويتلوى كالأفعى وسط الجماهير الغفيرة التي جاءت للاحتفاء بإحدى أعياد الثورة، وبدلاً من أن يعتلي كعادته في مثل هذه المناسبات الوطنية المنصة وصوته يدوي مجلجلاً عبر مكبر الصوت يرونه والدهشة تعقد ألسنتهم وهو يؤدي بمفرده رقصة برع طريفة ومثيرة للغاية، وكأن صوته وهو يشدو حزيناً ومؤثراً يشوبه تهدج وكأنه على وشك الإجهاش بالبكاء “وطن عربي واحد.. شعب عربي واحد.. جيش عربي واحد.. علم عربي واحد.. واحد.. واحد”.