كُتب وقيل الكثير عن طرق الحرير التي وصلت منذ الأزمنة القديمة الصين ومناطق عديدة من آسيا بالعالم الخارجي. وترددت بالتوازي بأشكال مختلفة مقولات ونظريات لباحثين ومؤرّخين غربيين تركز على القول إن التاريخ بدا فعلياً مع أوروبا انطلاقاً من الحقبة اليونانية القديمة والرومانية ثم صعود أوروبا الحديثة.
وتحت عنوان «طرق الحرير.. تاريخ آخر للعالم» يقدّم بيتر فرانكوبان، الأستاذ في جامعة أكسفورد ومديرمركز الأبحاث حول بيزنطة في نفس الجامعة، رؤية أخرى مغايرة إلى حد كبير للنزعة الأوروبية المفرطة في التمحور حول الذات واعتبار أن جذر التاريخ يوجد في أوروبا حصرا، باعتبارها مركز العالم والقوّة المحرّكة لمسار التاريخ
النقطة التي ينطلق منها المؤلف تتركّزعلى القول إن الرؤية الغربية بصورة عامّة تفرط في ربط تاريخ العالم بالصعود الأوروبي حول الجذر الحضاري اليوناني ـ الروماني..
وتحديدا بمدلوله المسيحي. ومن هنا بالتحديد أيضا يتم تجاهل الدور الكبير الذي لعبه الشرق في اللقاء والحوار بين الحضارات. ويرى المؤلف أنه ينبغي إعادة الاعتبار لذلك الدور. وهذا يترتب عليه كتابة «تاريخ جديد للعالم»، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.
ويشير المؤلف أن تسمية طرق الحرير حديثة العهد نسبيا حيث يعيدها إلى عام 1877 عندما استخدمها الجغرافي وعالم الجيولوجيا الألماني فردناند فون ريتشوفن الذي كان أحد أشهر مؤرّخي عصره. والإشارة أنه استخدم تعبير «طرق الحرير» للدلالة على طرق المرور التجارية بين قارّتي آسيا وأوروبا خلال عدّة قرون من الزمن.
ويعني بيتر فرانكوبان بالشرق تلك المنطقة الشاسعة التي «تتواجد في منتصف الطريق بين الشرق والغرب والتي تمتد عموماً من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط حتى البحر الأسود وجبال الهملايا». ولا يتردد في التأكيد أن المنطقة المعنية عرفت منذ الأزمنة القديمة حضارة متقدّمة لم تكن هناك حضارة أخرى تعادلها في العالم آنذاك.
ولا يتردد فرانكوبان في الذهاب أبعد مما ذهب إليه بعض المؤرّخين قبله. ذلك عبر بحثه عن قراءة معدّلة للتاريخ غير تلك التي تتمحور حول الغرب الأوروبي كأصل للعالم. هكذا يقوم بـنوع من «تغيير مركز الثقل التاريخي» من الغرب وإزاحته نحو الشرق. هذا عبر نفيه لما يتم ترويجه في التاريخ الغربي عن «الظفر السياسي والثقافي والأخلاقي للغرب» بالقياس إلى الشرق. هذا الشرق الذي يعتبره المؤلف بمثابة «حاضنة استثنائية» لمختلف المعارف.
ويحدد طرق الحرير بتلك الشرايين الحيوية التي كان يتم عبرها انتقال البشر والسلع والبضائع والفراء والفضّة ومختلف أشكال التجارة. ولكن أيضا تبادل وتفاعل الأفكار والتعرّف على المعتقدات، الإسلامية والتقدّم العلمي والأفكار الفلسفية، وكذلك انتقال العادات والمآكل والأمراض ــ كان مرض الطاعون قد أودى بحياة الكثيرين في قارّتي أوروبا وآسيا خلال القرن الخامس عشر، كما يشير المؤلف ــ وغير ذلك مما هو قابل للنقل والانتقال.
ويحدد المؤلف القول إن تلك الطرق ــ الشرايين لم تكن مكرّسة فقط للانتقال والتجارة فحسب، ولكن أيضا، وأساساً، للتواصل والتفاعل، «على طريقة الشبكات اليوم»، بين مناطق ذات ثقافات مختلفة. ويشرح أن ذلك كان في الاتجاهين وليس في اتجاه واحد. وما يعني أنه من الصعب التركيزعلى الفعل الغربي فقط وتجاهل الغربي بالمقابل. والحديث في هذا السياق عن تحرّك الاسكندر المقدوني شرقاً وسلالة الهانس الصينية غرباً، كحركة في اتجاهين.
المثير للانتباه أن مؤلف الكتاب يقدّم في الفصل الذي كرّسه للمغول رؤية خاصّة عنهم حيث يعتبر أنهم لم ينتصروا في الكثير من معاركهم، حسب الأفكار السائدة عنهم، بالاعتماد على القسوة المفرطة التي اشتهروا فيها ولكن بالاعتماد على سلطة مركزية قوية.
ورؤية خاصّة أخرى يقدّمها المؤلف حول «التعايش بين الديانات السماوية الثلاث» فيما بينها عندما انتشرت في البلدان ذات الصلة بطرق الحرير. و يشير أن المسيحية كانت في أزمنتها الأولى «آسيوية» أساسا حيث تواجدت في منطقة تمتد من بلاد ما بين النهرين وحتى سهوب آسيا الوسطى.
كما يؤكّد القول إنه «في الأزمنة الأولى لتعايشها ــ الديانات السماوية ــ كانت العلاقات بينها أكثر من سلمية. وكانت الأجواء ــ الاجتماعية ــ مشجّعة تماما». ويقارن المؤلف في هذا السياق بين واقع التعايش بين جميع مكونات بلدان طرق الحرير وبين ما كان قد فعله الأوروبيون بالنسبة لأبناء أميركا الأصليين ــ الهنود الحمر، حسب التسمية الشائعة، عندما وصلوا إلى العالم الجديد.
Next Post