عرض/ خليل المعلمي
نحن نعيش عصراً جديداً هو عصر المعرفة، التي أصبحت فيه، أداة التقدم والقوة في المجتمعات الحديثة، لقد أصبح الاتصال يجري في الزمن الحقيقي أو اللحظي، وأصبحنا نرى الأحداث التي تقع بعيداً عنا بآلاف الأميال في الوقت نفسه الذي تجري فيه، أصبح بإمكان الإنسان أن يتخطى الحدود والمسافات الطويلة ضمن الزمن اللحظي، وتمكنا باستخدام الأدوات المعرفية مثل الانترنت أن نتناقش وأن نتكلم لغة واحدة مع أفراد يختلفون عنا في الثقافة واللون والدين.
وطالما أن لهذا العصر المعرفي من ايجابيات فإن له سلبيات فعلى شعوب ودول العالم الثالث أن تفهم الثورة المعرفية واتجاهاتها والاستفادة منها وتتلافى سلبياتها ولن يحدث هذا دون فهم موضوعي وعلمي لهذه الثورة.
ويعتبر كتاب “البعد الاستراتيجي للمعرفة” والصادر عن مركز الخليج للأبحاث لمؤلفه الدكتور سلمان رشيد سلمان محاولة لقراءة محطات التطور المعرفي لدى البشرية وتتبع أهم ملامحه، مبرراً الطفرة الحالية الهائلة التي شهدتها المعرفة ومتغيراتها المثيرة.
ويسعى الكتاب إلى إبراز الدور المتميز الذي أصبحت المعرفة تضطلع به على مستوى تحديد موازين القوة عبر العالم والتغيرات الملاحظة على هذا النطاق ويتمثل أبرز هذه التغيرات بعد الحرب العالمية الثانية في ظهور قوى جديدة على حساب قوى تقليدية.
وبطريقة استشرافية يستعرض المؤلف من خلال فصول الكتاب الأربعة، على نحو متعمق آفاق هذا التطور المعرفي وأثره على تحديد المسارات المختلفة لصدامات المستقبل ودور ذلك في تحديد معالم ما يعرف بالحرب الالكترونية القادمة.
تطور البعد المعرفي
استعرض المؤلف في الفصل الأول من الكتاب أهمية المعلومات منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحالي ومروره بمراحل عدة مثل مرحلة الصيد ومرحلة الزراعة وإقامة الحضارات القديمة حتى وصل إلى الثورة الصناعية التي مثلت مرحلة مهمة في تاريخ الإنسانية.
وبالنظر إلى بداية الثورة الصناعية والتي تجسدت في إنتاج الماكينة البخارية كما يقول المؤلف، لوجدنا أن هذه المجتمعات قد طورت مؤسسات للمعرفة العلمية والتقنية، وكانت الجامعات والمعاهد خزانات لهذه المعرفة من هنا أخذت بريطانيا، التي بدأت فيها الثورة الصناعية توسع عامل القوة عبر القوة العسكرية والثروة والطاقة والمعرفة التي تنامت في بريطانيا بشكل كبير.
كما استعرض المؤلف المراحل التي مرت بها المعرفة خلال الثورة الصناعية حتى وصلت إلى الوقت الحالي في القرن الحادي و العشرين.. مشيراً إلى العوامل الثلاثة للقوة والمتمثلة بالثروة والمعرفة والقوة العسكرية.
وقال: إن امتلاك أي دولة لهذه العوامل الثلاثة للقوة وحسن استخدامها وإنتاجها يعطيان هذه الدولة أو تلك القدرة على عولمة القوة من خلال عولمة السياسة والاقتصاد.
البعد الاستراتيجي للمعرفة
ويستعرض المؤلف في هذا الفصل دور المعرفة في هيمنة بعض الشعوب على شعوب أخرى منذ الحضارات القديمة التي توفرت لها عوامل القوة العسكرية والاقتصادية والثروة إضافة إلى المعرفة حتى العصر الحالي.
وأوضح خلال هذا الفصل الاستراتيجيات التي اتخذتها بعض الدول التي سعت إلى إقامة نظام عالمي جديد يرتكز بالأساس على نمو قطاع المعرفة الذي يستند إلى التقدم التكنولوجي في صناعات كثيفة المعرفة وإقامة مؤسسات العولمة وهي الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
وأوضح أن صناعة المعرفة أصبحت صناعة تعتمد على برمجيات وكمبيوترات وبدأت التكنولوجيا تدار من قبل برمجيات الأنظمة الخبيرة وبرمجيات الذكاء الاصطناعي وبدأت اختصاصات جديدة تظهر إلى الوجود منها مهندسو المعرفة وخبراء المعرفة وصناع المعرفة وأمكن من خلالها التوصل إلى العديد من الاكتشافات المعرفية الجديدة.
هوة ثقافية
تواجهنا اليوم هوة ثقافية ما بين الأمم والشركات التي تنتج المعرفة وبين الأمم التي تستهلك المعرفة وهذه الهوة يقول المؤلف أنها تتزايد مع الوقت بين من سيكون جزءاً من الثقافة الجديدة العالمية وبين من ينعزل عنها وهذه الثنائية ستقود إلى نفي اجتماعي، إن المجتمع الذي سيعتمد نظامه التعليمي على الكمبيوتر منذ المراحل الابتدائية سيولد ثقافة الرمز لدى الجيل الجديد وسيشعر جميع الذين هم خارج هذا النظام التعليمي الجديد بعزلة اجتماعية لأنهم سيكونون خارج هذا المجتمع الجديد القائم على التكنولوجيا الجديدة تكنولوجيا الرمز والاتصال.
ويضيف: نحن ندخل الآن عصر التكنولوجيا الرقمية والرقم والرمز سيكوّنان الأساس لبناء الثقافة الجديدة وستهدّد هذه التكنولوجيا اللغة لأن الإنسان لن يلجأ إلى اللغة المعقدة، لن يلجأ إلى كلمات وسطور للتعبير عن حاجة يمكن أن يعبر عنها برمز أو بعدد، وأن تحويل المعرفة إلى أرقام ورموز سيمكن الإنسان من سرعة الاتصال وسرعة التعامل مع المعلومات.
الأمن القومي في عصر المعرفة
وبهذا فقد خصص المؤلف الفصل الثالث للحديث عن الأمن القومي في عصر المعرفة.. حيث تساءل عن الأسباب التي تدفع الآخرين لخوض حرب معلوماتية؟؟
وعن الاقتصاد المعرفي يقول المؤلف: فبعد التحولات التي شهدها الاقتصاد في العالم المتقدم، نما قطاع الخدمات حتى فاق عدد العاملين فيه بقية القطاعات الاقتصادية لذلك فإن معظم الوظائف في العالم المتقدم في الوقت الحاضر تعتمد على قطاع المعرفة ومن هنا فإن نمو القطاع الخدمي في هذه الدول كان على حساب القطاع الصناعي والزراعي.
كما أشار المؤلف إلى ظهور الحروب الجديدة في عصر العولمة وذلك باستخدام شبكة التمويل وشبكة الشركات والمؤسسات والشبكة العامة وشبكة التعاونيات وشبكة الاشتراكات والشبكات الحكومية والدفاعي وكل هذه الشبكات تستخدم لنقل وتبادل المعلومات والتحويلات المالية.
واستعرض المؤلف الأسلحة الهجومية التي يمكن أن تستخدم في الحرب المعلوماتية مثل بنادق الذبذبات الراديوية ذات الطاقة العالية والتي تطلق على هدف مستهدف، والقنابل المحمولة التذبذبية الالكترومغناطيسية وأجهزة المداخلات حيث تتأثر أجهزة الحسابات والاتصالات بالتداخل الذي يقوم به الهاكرز، والتخريب عن أجهزة استلام الإشعاع والفيروسات..
ملامح المستقبل
وأشار المؤلف في الفصل الأخير إلى التطورات المعرفية وتنامي قدرات وقوة المجتمعات المعرفية وتأثير كل ذلك في المستقبل، وتناول المؤلف تأثير الولايات المتحدة الأمريكية في صياغة مستقبل الدول والعالم باعتبار أنها تقود المجتمع المعرفي مما دفعها خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إلى أن تلعب الدور المحوري في إعادة تشكيل العالم وفق تصوراتها فيما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وعن استشراف المستقبل يتساءل المؤلف هل يعتبر ترفاً تقوم به المؤسسات الكبيرة والدول الغنية أم هو ضرورة لابد منها، وشمعة تنير لنا درب الظلمات الذي يراد لنا أن نسير فيه.. ومن خلال العديد من الدراسات التي أجريت لدراسة المستقبل في ظل التطور المعرفي والتكنولوجي فقد اعتمدت هذه الدراسات سيناريوهات عدة منها المتفائل والمعتدل والمتشائم ومنها ما تحقق ومنها مالم يتحقق.
فهل يمكن استشراف المستقبل بالاعتماد على نماذج رياضية فحسب؟ أم أن التغيرات السياسية والاقتصادية يمكن أن تجعل عملية استشراف المستقبل عملية عقيمة؟ ولابد أن نعرف أن استشراف المستقبل هو عملية تدخل فيها عناصر اجتماعية وسياسية واقتصادية شديدة التعقيد.
واختتم المؤلف الكتاب بالحديث عن مستقبل النظام العالمي الجديد في ظل تطور المعرفة والتكنولوجيا خاصة في ظل التطورات السياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم.