
كتب / محمد راجح –
تمر اليمن حالياٍ بلحظة تاريخية غير مسبوقة مدفوعة بقوى اجتماعية عديدة تطالب بتغيير بنيوي عميق يستهدف إحداث نهضة تنموية شاملة للتصدي لمشاكل البلد الرئيسية المتمثلة بالفقر والبطالة.
وفي هذا الصدد أنجز خبراء أمميون بمشاركة مختصين محليين إعداد رؤية واسعة تمثل نموذجاٍ جديداٍ للتنمية للفترة القادمة وفقاٍ لشكل الدولة الذي سيحدده مؤتمر الحوار الوطني .
وتولي مسارات التنمية الجديدة وفقاٍ للرؤية التي شملت اليمن ودول الربيع العربي أهمية أكبر لقضايا الحوكمة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعمل اللائق.
وحصلت الثورة على معلومات تفيد بأن مفهوم التنمية الجديد لا يتعامل مع قضية الاستقرار من منظور أمني فحسب وفوق كل شيء لا ينظر إلى التقدم من منظور منفعة السلع والخدمات (مثل نمو معدل نصيب الفرد من الدخل) وإنما من خلال القدرات الجوهرية التي تمكن المرء من اختيار حياة يعتبرها ذات قيمة.
مفهوم الرؤية يتلخص في فكرة هامة مفادها إن الدولة التنموية قادرة على تحويل الإمكانيات الهائلة والموارد الطبيعية في المنطقة على مستوى نظام سياسي اقاليمي إلى قاعدة لنمو استيعابي لا إقصائي يحترم حقوق الإنسان ويحد من الفقر ويخلق فرصاٍ للعمل اللائق.
ويرى كذلك في الإنفاق الاجتماعي استثماراٍ حقيقياٍ في المستقبل. والحق أن اليمن مثلها كسائر دول الربيع العربي أغنى مما آلت إليه تنميته. وعليه تكمن المهمة الأساسية للدولة التنموية في الاستثمار في مواطنيها.
ولتحقيق ذلك فإن المطلوب والممكن بحسب ما تتضمنه الرؤية الجديدة إصلاح السياسات الاجتماعية الراهنة وتطوير خطط تنموية قومية رصينة تركز على السياسات الصناعية والزراعية والتجارية وزيادة إنتاجية العمل وتحديد أولويات الاستثمار في قطاعات ومشروعات تضمن استدامة القاعدة الاقتصادية والبيئية ومن شأن تنفيذ هذه الاستراتيجيات التنموية القومية في إطار تكامل في إطار التنمية المحلية.
ويرى خبراء أن إعادة التفكير في التنمية يجب أن يتم وفقاٍ لهذه التصورات في المقام الأول فهماٍ عميقاٍ للسياق التاريخي الذي أفضى إلى انطلاق حركة ثورية واسعة للتغيير.
وفي هذا السياق فإن جوهر التنمية طبقاٍ لهذه الوثيقة التي تتضمن النموذج الجديد للتنمية يتمثل في أن التحول إلى الأسواق “الحرة” بعد عقود من اقتصاد مركزي الإدارة ارتبط به عقد اجتماعي يتسم بضعف المشاركة السياسية ومشروعات تنمية وطنية فاشلة. وللأسف انعكس الفساد الذي اتسمت به البنى السياسية على تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالي مما أثر سلباٍ على الهياكل الاقتصادية. أما عملية صنع السياسات فقد شابها جزئياٍ التدخل السياسي (الداخلي والخارجي على حد سواء) وبحث النخب السياسية والاقتصادية عن العوائد الريعية وغياب رؤية تنموية استيعابية واضحة بعيدة المدى. وأدى التطبيق السيئ وسوء إدارة سياسات السوق الحر إلى هدر الإمكانيات الهائلة لإنجاز تنمية اقتصادية استيعابية وحرمان غالبية المجتمع من حقها في التنمية.
ويقترح الخبراء الذين اعدوا الخطة الجديدة للتنمية عدداٍ من الرؤى والاتجاهات الخاصة بالسياسة العامة التي تمكن من معالجة تحديات التنمية وقضايا الانتقال الديمقراطي على المدى الطويل. ويتمثل الاستنتاج الرئيسي لهذا التقرير في أن اليمن بحاجة إلى نموذج تنموي جديد. غير أن الانتقال من الاقتصاد السياسي القائم على الريع إلى نموذج الدولة التنموية يتطلب تبني آليات المساءلة السياسية والاجتماعية والإدارية التي تعزز التنمية الاستيعابية في كلا المجالين السياسي والاقتصادي.
ويرتبط مثل هذا التحول بتصميم وتنفيذ إطار جديد للمساءلة ينهض على الفصل بين السلطات بما يضمن وجود نظام فعال يحتوي على العديد من الضوابط والتوازنات ويعترف بالحق في الحصول على المعلومات. والأهم من ذلك هو أن المسار نحو الدولة التنموية يتطلب بذل جهد مكثف لترشيد إدارة أربعة موارد أساسية وهي: الطاقة والمياه الأرض الزراعية والأهم الموارد البشرية.
تحدي رئيسي
تعاني اليمن من مشكلات معضلة أهمها البطالة ومحدودية الفرص المتاحة للتشغيل وهي عقبة رئيسية تخلق العديد من المشاكل التي تلحق أضراراٍ بالغة بالحياة العامة والمعيشية للمجتمع.
ولمواجهة هذا التحدي بحسب التقرير الأممي الخاص بالنموذج التنموي الجديد تحتاج اليمن إلى تبني سياسات للاقتصاد الكلي والقطاعي أكثر تركيزاٍ وفاعلية وإنتاجية.
وتَعد البطالة مشكلة خطيرة في اليمن بالإضافة إلى معدلات البطالة المرتفعة تسجل أدنى معدل مشاركة في القوى العاملة في العالم. وهذا ما يستدعي تحركاٍ سريعاٍ لإيجاد تدخلات تسهم في الحد من البطالة من خلال زيادة فرص العمل اللائق في القطاع المْنظم لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح. ويقترح التقرير تدخلين فوريين: فمن ناحية يدعو إلى فهم أكثر عمقاٍ لديناميات سوق العمل بهدف خفض اختناقات العرض والطلب التي تعوق محاولات خلق فرص العمل والنفاذ إليها. ومن ناحية أخرى يوصي بالاستخدام المبتكر لعمليات المشتريات العامة لزيادة الطلب على السلع المنتجة محلياٍ ويمكن تحقيق ذلك من خلال الحرص على استخدام المعدات والمواد التي تنتجها الشركات المحلية بأسعار تنافسية وعبر زيادة مرتبات القطاع العام في شكل قسائم يمكن استخدامها لشراء مجموعة معينة من السلع المنتجة محلياٍ والتي تتطلب عمالة كثيفة.
وسوف تسهم هذه التدخلات إسهاماٍ كبيراٍ في الحد من البطالة وزيادة الطلب على المنتجات المحلية التي تتأثر سلباٍ بالركود في مرحلة ما بعد الثورة. فبالإضافة إلى العمل على سياسات الاقتصاد الكلي لزيادة الطلب على اليد العاملة من خلال زيادة نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي وغيرها من التدخلات المتعلقة بالطلب يمكن اتخاذ سلسلة من التدابير في مجال العرض لتحسين كفاءة سوق العمل. ومن هذه التدابير مراجعة قوانين العمل لضمان حقوق العمال وتشجيع العمالة المْنظمة وتنظيم العمالة غير المْنظمة وخلق برامج تدريبية موجهة نحو تلبية الطلب وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل جميع العمال.
ينبغي إنجاز هذا التحول في السياسات تحت مظلة عقد اجتماعي جديد ينهض على الحوار بين الدولة والمؤسسات التمثيلية. ويمكن للدولة التنموية أن تصبح قطبا عالمياٍ رائداٍ للبحوث حول الطاقة المتجددة وتطويرها وإنتاجها. ويمثل تبني تقنيات الري الحديثة على سبيل المثال أمراٍ ضرورياٍ من أجل التغيير الهيكلي في نمط الإنتاج الزراعي وكفاءته كما أنه يمكن أن يحل جزءاٍ كبيراٍ من مشكلة عدم الاكتفاء الغذائي وأن يسهم بشكل كبير في التخفيف من حدة الفقر في المناطق الريفية. كما إن الدولة التنموية الجديدة التي تتبنى الحوكمة الرشيدة للموارد الطبيعية وتستثمر في المناطق الريفية والإنتاج الزراعي والبحث العلمي هي وحدها التي يمكنها تحويل التحدي البيئي الهائل إلى فرصة تاريخية.
الطريق إلى المستقبل
خلق التداخل بين دوائر الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمناطقي واقع معقد ومتفجر. ولا يمكن معالجة هذا الواقع إلا من خلال تحولات جذرية تهدف إلى وضع الإنسان في قلب التنمية. ولا يمكن لمثل هذه التحولات الهيكلية أن تتم بين ليلة وضحاهاº فالحكومات المستقرة ناجزة الشرعية الدستورية والشعبية والسياسات التي تأخذ حظها المناسب من التفكير والتخطيط تحتاج إلى وقت كي تنبثق وتتبلور. وعلاوة على ذلك ونظراٍ للقيود المؤسسية المعروفة جيداٍ والواقع السياسي الذي يواجه الحكومة في البلد التي تمر بمرحلة انتقالية فإن وضع خطط اجتماعية-اقتصادية طويلة الأجل على وجه الخصوص يتطلب استعدادات كبيرة تضمن ترجمة تطلعات الشعب إلى تدخلات تنموية مجدية اجتماعياٍ وبيئياٍ كما يجب أن يصاحب ذلك اتفاق تفاوضي على مقايضة مقبولة بين الفائزين والخاسرين نتيجة لتبني سياسات وبرامج بعينها.
لذا ينبغي إعطاء الأولوية لحزمة من التدابير التي يمكن تحقيقها ضمن الأطر التنظيمية والتنفيذية للإدارة العامة الراهنة للاستجابة لمطالب الشعب. فالتحول الناجح باتجاه الدولة التنموية يصبح أمراٍ مرجحاٍ إذا ما تم التركيز – في المدى القريب – على عدد محدود من المؤسسات الرئيسة التي تؤثر على العلاقة بين الدولة والمجتمع.
بيئة هشة
تعاني اليمن من بيئة أعمال هشة تعوق الاستثمار طويل الأجل. ويتطلب تحسين هذا المجال الكثير من الوقت والجهد على المستويات الكلية والمؤسسية والقطاعية. وتتمثل الأولوية الرئيسة في تقييم مؤشرات التنافسية والتدابير التي يمكن وضعها موضع التنفيذ بسهولة من قبل المؤسسات القائمة مثل إلغاء جميع القرارات التي تعرقل الإنشاء الفوري لأعمال جديدة أو لتوسع أعمال قائمة بالفعل لاسيما في قطاعات استيعاب العمالة والقطاعات التنافسية. وبالمثل ستؤدي إعادة النظر في الحد الأدنى المطلوب من رأس المال لتأسيس الشركات وتقنين إجراءات التسجيل إلى تحسن هائل في مناخ الأعمال. ويمكن إنجاز تحسن فوري في تيسير التجارة وخدمات الدعم (الجمارك والحدود والنقل والتمويل … إلخ) بسهولة عبر إلغاء جميع الإجراءات والعقبات غير الضرورية التي توفر أرضاٍ خصبة للفساد والنزاع بين الناس والعاملين في الإدارة العامة.
ويعد الاستبعاد الاقتصادي والاجتماعي للشباب والمتمثل في عدم حصولهم على فرص عمل لائق بالإضافة إلى تهميشهم في مجال السياسة مصدراٍ للكثير من التوتر الذي شهدته وتشهده البلد. والحال أن تراجع معدل البطالة يترافق مع تركز القسم الأكبر من فرص العمل المتولدة في أنشطة منخفضة الإنتاجية في القطاع غير المنظم.
العدالة الاجتماعية
هناك أيضاٍ تفاوت وعدم مساواة في توزيع الدخل والثروة وللحيلولة دون تفاقم عدم المساواة هذه ثمة حاجة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الفورية مثل التطبيق الفعال للضرائب التصاعدية وبخاصة ضرائب الدخل والملكية والضرائب على أرباح رأس المال. كما يمكن للدولة أيضاٍ أن تضع حداٍ أدنى للأجور ومثبتات للضمان الاجتماعي في أنظمة الحماية الاجتماعية وسياسات الإنفاق العام.
ويؤكد التقرير ضرورة تركيز عملية الحد من الفقر خلال الفترة الانتقالية على خفض التفاوتات المناطقية من خلال برامج استهداف جغرافي. ويمكن تنفيذ مثل هذه التدخلات من خلال خرائط الفقر المتاحة. كما ينبغي على الحكومة والمجتمع المدني والشركاء الدوليين أن يتعاونوا في تصميم وتنفيذ مثل هذه البرامج التي تنطوي على مكونات الأشغال العامة والتمويل الصغير ودعم الأعمال الصغيرة والتدريب وتوسيع نطاق شبكات الخدمات الاجتماعية وبخاصة تلك التي تستهدف النساء بما في ذلك توفير الخدمات الصحية والتغذية المدرسية فضلا عن برامج صحة الطفل.
ولضمان نجاح هذه البرامج ستكون هناك حاجة إلى موارد مالية إضافية لتمويل المشروعات الصغيرة الفردية والجماعية التي تخدم المناطق المتدهورة والنائية. ومن الضروري كذلك تمكين الحكومات المحلية المنتخبة من خلال توفير الطاقات البشرية والموارد المالية والتدريب وتعزيز القدرة على بناء وتوسيع مجال صنع القرار على المستوى المحلي.
خمسة محاور
خلاصة القول كما يشير التقرير إلى أن نموذج الدولة التنموية يتطلب خيارات صعبة لا تستطيع القيام بها سوى حكومة منتخبة ومتجاوبة وقابلة للمساءلة. ومن المؤكد أنه لا توجد سياسة يرضي عنها الجميع في كل وقت. وبالتالي فإن إدارة الصراع الاجتماعي حول الخيارات الصعبة أمر مهم لمصداقية واستدامة الدولة التنموية. وغني عن البيان أن المشاركة الاستيعابية الشاملة للكافة في المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تعمل على تعبئة المصالح الجماعية والتعبير عنها (سواء كانت الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات المهنية أو جماعات المجتمع المدني الدعوية) تعزز في نهاية المطاف من قدرة الدول على إدارة الصراع الاجتماعي.
ويسرد في هذا الجانب خمسة عناصر متداخلة بشأن ما يجب فعله وما يجب تجنبه لضمان التحول الناجح وهي إحداث الدولة لإصلاح حقيقي لا لكي تستخدمه كمجرد واجهة ظاهرية بل لبناء أسس متينة للفعالية والشرعية والاستقرارº والعنصر الثاني إيجاد قاعدة شعبية قوية لتحقيق العدالة الاجتماعية والحوكمة القائمة على المساءلةº بينما يركز العنصر الثالث على مكافحة الفساد الذي يمثل عرضاٍ خطيراٍ من أعراض فشل الحوكمة وحافزا للغضب الشعبيº وهو ما يتطلب تضافر جهود المؤسسات القضائية والإدارية والسياسية والاجتماعيةº ويتحدث العنصر الرابع عن تقوية العملية الديمقراطية الجديدة بالتركيز على حرية المعلومات (وخاصة شفافية الميزانية وعلانيتها) والضمانات من خلال تولي مدنيون الرقابة والإشراف على الخدمات الأمنية والشرطة واستقلال القضاءº العنصر الأخير يرى ضرورة أن تبدأ جهود التحول بإصلاح الحكم المحلي من أجل ضمان التنمية العادلة والمساءلة واستجابة السلطة للمطالب الشعبية.
