علي أحمد عبده
عالم السرد عالم متجدد مدرار كل فترة له صورة وحال.
وهو العالم الذي يرسم الإنسان وقضاياه ويرسم الحياة بمختلف جوانبها وهو الأقدر على ذلك لما يمتلك من خصائص وميزات فنية ولغوية فكانت الرواية ولا تزال هي الاقدر على تصوير المدنية وتعقيداتها.
وتأتي القصة القصيرة لتكشف قضية بحجم رواية وسيناريو لا ينتهي.
وجاءت بعد ذلك القصة القصيرة جدا تتلاعب بمخزون اللغة لتعطي قدرات إبداعية مذهلة وخلابة.
في هذه القراءة سوف أقرأ القصة قصيرة جدا والنسوية بالذات ولدي قاصتان فازتا بجائزة رئيس الجمهورية للشباب القاصة /أسماء المصري والتي تخلق تنافساً إبداعياً منقطع النظير وفي هذه القراءة سوف أتناولها ونصوصها القصيرة جداً في مجموعتها التي فازت بجائزة رئيس الجمهورية “مجرور بالحسرة”.
من المعروف أن القصة القصيرة جداً فها من الرمزية والانزياح دلالات عميقة وهي علامة من العلامات التي يمكن للقاص المبدع أنه قدير بالاشتغال اللغوي الذي يمكنه من طرح رؤية مغايرة للطرح السردي المتعارف عليه فهذه أسماء المصري في أقصوصة طموحة يقول النص:
“دخلت القفص بملء إرادتها ..
اشترطت أن يكون القفص مفتوحاً “”
من خلال اللغة السردية ((دخلت ,اشترطت)) ماضوية هذه الماضوية دالة على الثبات وما بين الدخول وملء إرادتها حرية واختيار ذاتي للفعل المراد أو التحول الحياتي المستجد.
ويأتي بعد ذلك الاشتراط على الذات فكانت السرد بضمير “هي” وكان القفص متكرراً مرتين “القفص , القفص” .
زمن الملاحظ أن اللغة الإنزياحية حولت القفص الى الزواج وحولت الزواج الى حرية “اشترطت أن يبقى القفص مفتوحاً” ليكون الزواج تجربة ويعكس دلالة خاصة وعميقة هي قضية من عالم المرأة وجسدها المتخم بالأحلام.
ولأن المفارقة فيها هي خاصية من خصائص النص باعتبار تأتي نوعاً من الادهاش وترسم قضية مابين النور والظلام والخير والشر والحب والأنانية وغير ذلك من نص أسماء المصري ربما أنه أظهر المفارقة في بعض النصوص الأخرى بشكل مدهش ففي نص تجربة:
“فشكت أن أكون أشياء كثيرة من اجلي…
نجحت أن أكون شيئا من اجل الجميع”صــ20ــ
المفارقة في النص مدهشة بحيث أن النص يسرد الفشل في أمور متعددة وكثيرة وقد تكون متشعبة ويأتي النجاح الوحيد في الحب ” نجحت أن أكون شيئا من اجل الجميع “هذه الدلالة من اجل حولت الفشل نجاح في أشياء كثيرة إلى تحول نجاح في كل الأشياء فكان النص مدهشاً وفارقاً .
وإن كانت اللغة بسيطة إلا نهايته الفارقة حولته إلى نص متكامل ولأن الرمزية هي أسلوب وصورة تمكن القاص والمبدع من أن يرسم قضية ويرسم موقفاً ويعمق رؤية ويمازج الجمال الإبداعي بالحياة والموقف ولعل النص يأتي باللغة بشكل مختزل ومضغوط كي تصل الفكرة للقارئ بنوع من الادهاش.
والنص القصير يتشكل ليعبر عن الفكرة بتركيز الاختزال فيه والتلميح فيلاحظ القارئ التلميح في نصوص /أسماء المصري والذي يبتعد بالنص عن المباشرة والتقريرية ويمكن من سياق النص اكتشاف التلميح
“بينما كان الظلام جاثم ,يغط في سباته
ترمقني بضوء أحمر وصمت حقود
خنقتها بأصابعي الباردة
خشيت أن تلعقا” صــ26ـ
كان العنوان مباشراً كثيراً وتقريرياً “شمعة” ولكن النص يلمح للمضمون إلماحاً من خلال التركيب اللغوي “ترمقني بضوئها الأحمر” “خنقتها بأصابعي”
كل ذلك يشير إلى الشمعة ولكن النص يلمح الى موت الأمل وبرودة الحياة “اصابعي الباردة” لتشكل النص مضمون اختناق ولم يعد المثل مجدياً “أن تشعل شمعه خير من أن تلعن الظلام”
ولأن التلميح هو مرتبط بالاختزال في النص القصير جدا فإن اللغة العميقة هي أداته وقدرات الكاتب حتى يتمكن من توصيل الفكرة إلى القارئ:
“واصلنا تقليب صفحات الماضي
لما نفدت الأوراق
أعارونا الآخرون مسودات صفحات المستقبل “.
مما سبق يلحظ القارئ أن النص يعكس مضموناً هو تلميحا من خلال ” نفدت الأوراق أعارنا الآخرون صفحات المستقبل ” وكأن المستقبل ليس بأيدينا وإنما المستقبل بيد الآخرين لذلك فالتلميح ارتبط بالسرعة والتكثيف والاختزال .
لأن التكثيف يعتبر خاصية من خواص النص القير جداً بوصف الإسهاب خاصية قديمة ويعتبر الاقتصاد باللغة واختيار الجمل بعناية وتركيز دقيق مما يجعل الكتابة لهذا النوع من السرد عملية ليست سهلة ليعطي النص إيجاز دلالي منقطع النظير.
“يطرق باب قلبها بعنف
يلزمه سنوات ليدرك انه يفتح بكلمة سر”صـــ39
مما سبق يمكن القول أن النص لم يزد عن إحدى عشر حكمة اختيرت بعناية وتركيز لتعكس مفهوما ومضمونا أن صراع الانفتاح والانغلاق لذلك “يطرق باب قلبها بعنف” لتعكس عدم التمكن من ملامسة المشاعر الرقيقة ويقابلها التطور اللامتناهي “ليدرك انه يفتح بكلمة سر” وهذا تطور عاطفي تقني متعصرن بعكس التخلف.
لذلك النهاية الفارقة في النص جدا تولد آفاقاً مدهشة تحول القارئ إلى مشارك في النص وصناعته بحيث يتولد ويتوالد دلالات جديدة تتلاشى فيها الحكاية بعناصر جديدة غير متوقعة وكأنما اختزلت النص وكان مفاجئاً في النهاية سيؤدي إلى جمال سردي وإبداعي
“انتظرت الجلوس على هذا المكتب خمس سنوات
تمخض قراراً مسؤولاً
عن ولادة وريث جديد” صــ42ـ
النهاية تلاشت فيها الحكاية إلى حكاية جديدة وهي النفوذ والحرمان لذوي الأمل فيتحول الانتظار الطويل سراباً ويتحول الميلاد موتاً وتتحول حركة الحياة رتابة وجمود ولذلك فالنهاية صورت زمن الكتابة وزمن الذات المحبط.
وفي نص “نقطة ضعف” يمكن استخلاص جمال النهاية في النص :
“حذرته مراراً
لا تمسك بيدي التي تؤلمني
إن تماديت
فسوف أقطع يدي”
التحذير “لا تمسك أن تماديت ” النهاية “فسوف أقطع يدي” مما سبق يلحظ أن النهاية انزاحت بالمجاز إلى بتر الألم بوصف قطع اليد هو نهاية للألم للتخلص من الاستغلال والابتزاز الروحي وتعطي دلالة القوة وامتلاك القرار والذات.
وفي الأخير النص القصير جدا تجربة كتابية تساير الزمن وتعتمد على اللغة والثقافة اللغوية العميقة كي تخلق من اللغة نصاً مدهشاً يمكن أن يكون بمثابة قصة طويلة نلاحظها في الواقع فضلاً عن التخييل والمجاز لتسائل الكتابة والحياة واللغة والثقافة والواقع فالقصة القصيرة جداً هي مساءلة للكتابة نفسها في النص الواحد وفي النصوص المختلفة ومن ذلك فالقاصة بتجربتها الكتابية من خلال قراءة متون النصوص استطاعت في كثير من الأحيان أن تأتي بنص قصير جدا ملفت ومدهش وكثيف فكانت تجربتها تجربة تصل حد النضج وان كان ثمة نصوص وصفت حالة -وهي نادرة- فخرجت عن مميزات النص القصير لكنها في الغالب الاعم أتت بنص قصير جديد بخطاب وكتابة ومتن يعي مميزات الكتابة القصيرة جداً.