حينَ يهتَزُّ كُرسيُّ الخليفةْ
عبدالله فرحان
في العام ٢٠٠٢م صعدت نتائج الانتخابات التركية بنجم الإسلام السياسي، تحديداً حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، اليتيم بائع البطيخ في شوارع اسطنبول التي أصبح عمدتها، ثم ما لبث أن عُزِلٓ وسٰجِنٓ لاقتباسه أبيات شعر مجدت الجهاد في خطاب جماهيري بمحافظة “سعرد” جنوب شرق البلاد.
لمْ يلتفت الكثيرُ من المراقبين لتصريحات رئيس الوزراء التركي السابق (نجم الدين أربكان) وهو العالم والسياسي المخضرم حين حذَّر منْ أنَّ أردوغان قدْ باعَ نفسه للشيطانِ، بلْ زادَ افتتانهم بنجاحات التجربةِ الأردوغانيةِ على الصُّعُدِ السياسيةِ والاقتصاديةِ، وانطلقَ المواطن العربيُّ البسيطُ منتشياً بهجماتِ أردوغان الخطابية على إسرائيل، ثم انسحابه من جلسة منتدى دافوس الاقتصادي العالمي ٢٠٠٩م إثر مساجلةٍ كلاميةٍ مع شيمون بيريز.
منذُ العام ٢٠٠٦م شهدت دولٌ عربيةٌ حراكاً نشطاً للديبلوماسيين الأتراك، تحدثوا حينها عن المشروع التركي القادم للمنطقة، وعن حتمية الانضواء في المشروع القادم (ترغيباً وترهيباً)، ومن تلك الدول اجتمع شخصيات موالية للأتراك على من السفينة التركية (مرمرة) في مشهد تركي جديد حظي بتصفيق الجمهور العربي مجدداً، ليزيد ذلك التصفيق حرارةً مع حروبِ “غزةً التي قدَّم فيها أردوغان عروضاً خطابيةً قوية.
عربياً : تعالت الدعوات داخل حركات الإسلام السياسي وخارجها؛ بحتمية إجراء مراجعاتٍ للبنى الفكريةِ والتنظيميةِ لتلك الحركاتِ، واستلهامِ تجربةِ العدالةِ والتنميةِ البراجماتية، ثم ما لبث أنْ حدث ما سمي ربيعً عربياً؛ ليضعَ تلك الحركاتِ أمامَ اختبارٍ حقيقيٍ في هذا السياق.
لمْ يواكب الإخوان المسلمون في السودان وليبيا ومصر واليمن وغيرها نموذج العدالة والتنمية التركي في السياسة والإدارة، بالمقابل فُوجِئَ متابعون بتبني أردوغان خطاب استعلائي، وسياسات راديكالية، وعدائية مفرطة تجاه المخالفين والمعارضين لسياساته في الداخل، وبتعامله مثل بابٍ عالٍ في الشئون الداخلية للدول العربية بعد نحو قرنٍ من غياب الخلافة العثمانية التي تحضر في الذهن العربي جموداً فكرياً وانتكاسةً حضارية.
يُقَدِّمُ أردوغان ذاته (حفيداً للعثمانيين) في خطاباته المتعددة، وهو أيضاً في تعامله مع الأقلية الكردية يستحضرُ ممارساتِ العثمانيين بحقِّ الأقليةِ الأرمنيةِ في أواخرِ القرنِ التاسعِ عشرْ، وبداياتِ القرنِ العشرين، حيث يُتَّهمُ الأتراكُ بتنفيذِ أول عمليةِ إبادةٍ جماعيةٍ في العصرِ الحديث، والتي – للمفارقة – كانَ الأكرادُ إحدى أدواتها آنذاك حسبَ تلك الاتهامات.
ومثلما يُتَّهمُ العثمانيون الأوائل باستخدام الأكراد في تنفيذ عمليات الإبادة الجماعية بحق الأرمن؛ يُتَّهم العثمانيون الجدد (أردوغان وحزبه) بخوضِ حروبٍ ترقى إلى أعمالِ الإبادةِ الجماعيةِ بحقِّ الأكراد عبرَ عملياتِ الجيشِ التركي، وباستخدامِ تنظيم داعش وتنظيماتٍ أُخرى متطرفةٍ تُتَّهم تركيا بدعمها.
جاء قيامُ دولةِ الأرمنِ على حدود تركيا الشرقيةِ (بفضل الدعم الروسي) في الثامن والعشرين من مايو ١٩١٨م، وتَسبَّبَ احتلال السوفييت لها حتى العام ١٩٩٠م، ثم توتر العلاقة بين تركيا والدولة الجديدة؛ في قطع اتصال تركيا جغرافياً بمجتمعات آسيا الوسطى ذات الأصول القومية التركية، وبالتالي أضعاف النفوذ التركي في المنطقة التي تشتمل على ثروات نفطية ومعدنية ضخمة، وتُشكِّل أهمية جيوسياسية لقوى عالمية وإقليمية كبيرة وصاعدة (روسيا، الصين، أوكرانيا، إيران باكستان، الهند).
يوشِكُ العثمانيون الجدد على تكرار ذات الخطأ التاريخي بتعاملهم المتعالي مع الأكراد الذين يسكنون مساحةً جغرافيةً شاسعةً تمتدُّ على معظمِ الجنوبِ التركي، وتمثِّلُ شريان الاتصال بالمنطقةِ العربيةِ وإيرانِ، حيث العمق التاريخي والجغرافي والأمني لتركيا، ومصالحاً اقتصادية وثقافية وجيوسياسية حيوية للأمةِ التركية.
لقد تورطَ أردوغان في استفزازِ روسيا واستعدائها، وهي إضافةً إلى كونها دولة عظمى تمَّ استفزازها، تلتقي مع تركيا في تاريخٍ طويلٍ منَ الحروبِ والصراعاتِ، وتسكنُ ذاكرتها ثاراتِ الحربِ الباردةِ وعلاقةَ تركيا بنشاطاتِ الانفصاليين الإسلاميين في القوقاز، فعَمِدَت روسيا إلى قطع اليد التركية عَنْ سورية أولاً، وهي تعملُ الآنَ على تقليصِ النفوذِ التركي في العراق، ودعمِ حزبِ العمال الكردستاني الذي يقاتلُ لانفصالِ مناطق الأكراد، ولا يُستَبعَد أنْ تذهبَ إلى أبعدِ منْ ذلك.
تُواجِهُ تُركيا اليوم مشكلاتٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ وتحدياتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، تلك المشكلاتُ والتحدياتُ يواجهها أردوغان بالمزيدِ منْ تهميشِ الخصومِ وإقصائهم، وخلقِ مشكلاتٍ جديدةٍ، وفيما تتشكَّلُ خارطةً جديدةً للمنطقةِ بنفوذٍ إيرانيٍ متزايدٍ كشفَ عنه الاتفاق النوويُ مع الدولِ الستِّ الكبرى في العالم، يحاولُ الخليفةُ أردوغان العودةَ إلى المسرحِ بمشهدٍ قديمٍ جديدٍ بالشراكةِ مع الإسرائيليين.