روسيا وشرعية محاربة الإرهاب..
منذ الربيع العربي في 2011م، صار الشرق الأوسط بصفة خاصة والنظام الدولي بصفة عامة يتحركان، على صفيح ساخن، فيما باتت حركة الفوران والغليان اليوم أشدّ وقعاً من سالف أيام وأحداث الخمس السنوات الماضية، وكلما تطلعت الإنسانية إلى لحظة هدوءٍ تسارعت عجلة مأساوية الأحداث متنقلةً بين الدول العربية ودول الشرق أوسطية، ومن ثم إلى دول أوروبا.. كما لو أن مسار الأزمات والأحداث بهذا التصاعد يخلق دوائر تتسع تداعياتها الكارثية على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم..
حادث إسقاط الطائرة الروسية (سوخوي 24) -التي تلقت إصابتها في اللحظة التي كانت فيها على بعد أربعة كيلو مترات، من حدود تركيا، بصاروخ أطلق من طائرة تركية (إف 16) لتسقط الأولى في سوريا- قفز إلى بؤرة خطر الانفجار الكبير الذي يهدد النظام الدولي بأسره، ما جعل المتابعين يستحضرون كل القراءات التي قدمتها النخب الفكرية والسياسية التي سبرت أغوار مسار صراعات أقطاب العالم القوية الدائرة في مجملها حول (ثروة النفط والغاز) وإن تلونت هذه الصراعات بين السياسة والسيادة والنفوذ والفكر والإيديولوجيا والعقيدة.
سقوط طائرة روسية عسكرية قد لا يمثل حدثاً جوهرياً للدفع نحو حرب عالمية ثالثة أشد ضراوة من وجهة نظر الكثير، لكن دخول عارض الإسقاط المتعمد (كفعل وفاعل) لطائرة تؤدي مهمة أجمَعَ على شرعيتها العالم، مؤشر يعكس حقيقة اتساع دائرة الحرب الإعلامية والعسكرية الشاملة لقوى الصراع الدولية التي يترصد كل منها للآخر على حافة الاستقواء والسيطرة وإنهاك الآخر..
غير أن الحادث أسهم بفاعلية في تشكُّل الذرائع الأهم والأكثر تأثيراً في عملية تصعيد الحرب الشاملة باتجاه الإرهاب.. لتمسك روسيا بذرائع الشرعية الأهم على درب مستقبل حربها الدولية المشروعة ضد التطرف والإرهاب، ذاهبةً صوب عمق أسباب نشوء الإرهاب والتطرف، والأطراف الدولية والإقليمية الداعمة للإرهاب (تنظيم القاعدة)، والداعمة والمتبنية لـداعش (تنظيم الدولة الإسلامية ) بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الشرق الأوسط وعلى رأس هؤلاء الحلفاء تركيا والسعودية وقطر..
ومع تزايد تداعيات الحادثة وتصاعد اللهجة الروسية تجاه تركيا، تتقاطع خيوط الأحداث في ذاكرة التنبؤ السياسي بصدفة التحول الحتمي على وجه الشرق الأوسط والعالم، وباتجاه هدف أكبر وأبعد من مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأ التنظير له منذ 15 عاماً في دوائر القرار السياسي الغربي وبالتحديد الولايات المحتدة الأمريكية، وهو المشروع الذي تؤمن أمريكا بأنه المظهر الأهم لحلم جنون الهيمنة وبما يعكس ثقافة وسلطة أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وتسلحيه في العالم..
إنه مشروع “الحكومة العالمية” الذي لوّح إليه ثعلب السياسة الأمريكية “هنري كيسنجر” الذي صنف مجريات الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط بأنها تمهيد لحرب عالمية ثالثة يكون أحد أطرافها الولايات المتحدة من جهة، وروسيا الاتحادية والصين من جهة أخرى.. مؤكداً أن الولايات المتحدة قد خططت لاحتلال سبع دول شرق أوسطية من أجل استغلال مواردها الطبيعية (النفط والغاز).. وإن السيطرة على النفط هي الطريق للسيطرة على الدول، أما السيطرة على الغذاء فهو السبيل للسيطرة على الشعوب..
صحيح أن كثيراً من المحللين صنفوا حديث كيسنجر من باب الحرب النفسية وتحريض أطراف الصراع على الاستعداد للحرب التي قال أنها ستكون شديدة وقاسية.. مستشرفاً الحديث عن مستقبل “قوة عظمى وحيدة وقوية وصلبة ومنتصرة” ستصعد من بين ركام هذه الحرب، وهي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم !! والتي تسعى لبنائها الولايات المتحدة الأميركية، حسب كيسنجر..
لكن في الطرف الآخر يعكس العمل السياسي والتحرك العسكري الروسي المبكر خلال سنوات الربيع العربي، استعداداً هائلاً وجاهزية غير مسبوقة منذ فترة طويلة انتظاراً لما أسماه وزير الخارجية الروسي سيرغيه لافروف بـ”حفلة جنون الشرق الأوسط” في نصيحته للسيّد وليد جنبلاط زعيم الحزب الاشتراكي اللبناني، خلال إحدى زياراته لموسكو حيث قال عن تلك النصيحة: (قلنا له أن عليه أن ينتبه، هناك حفلة جنون في الشرق الأوسط ومن الأفضل أن لا يتورط فيها).. وهو التعبير الذي علق عليه المفكر العربي الكبير فاضل الربيعي بسلسلة مقالات سياسية وفكرية طويلة وهامة.