لسان حالها: ما ضاع حق وراءه مطالب ولا دام مُلك لغاصب
تحقيق وتصوير- إبراهيم الحكيم
لن أنسى عدن.. تقول آنا ديفيد أو ملاك عدن، كما هو اسم صفحتها ” إيدن أنجل ” في أحد المنتديات على شبكة الإنترنت.. آنا، تذكرها عدن بالميلاد والموت في آن معا. ففي عدن كان مولدها وفيها أيضاً كانت وفاة والدها الضابط في سلاح البحرية الملكية البريطانية، التي كانت لها قاعدة مركزية في عدن قبل 48 عاماً.
مثل آنا كثيرون، لا زالوا يحرصون كلما كان ممكنا على زيارة مدينة عدن، لاسترجاع ذكرياتهم فيها، ليس مع أحياء لا يزالون فيها بل غالباً مع أماكن وأموات لهم دفنوا في عدن. فالأخيرة تضم وحدها نحو خمس مقابر رئيسية للبريطانيين، جل نزلائها من صرعى قوات الاحتلال البريطاني، وبعض من صرعى القوات الايطالية إبان الحرب العالمية الأولى.. يظهر من منشور للبريطانية العدنية آنا، تسليمها بحتمية مصير والدها، وأن تشارك البشر الاقتناع بأن الموت قدر من كان غازيا وضمن قوات احتلال أجنبي.
لم يكن وارداً استقبالهم بالورود ولا الرضوخ له كما القرود، قدر ما كان مؤكدا استقباله بقذائف البارود ونصال السيوف والجنابي وكل ما كان ممكنا من وسائل المقاومة والصمود، وذلك بالضبط ما فعله اليمنيون مع كل غاز أجنبي قادته أطماعه لغزو اليمن، فردوه على أعقابه مدحورا أو مسجياً في عميق اللحود.
مَنْ يزور مدينة عدن، لابد أن يلحظ شهادات مادية دامغة لا تقبل التزوير، تقر بحقيقة أن استقلال جنوب الوطن وتحرره من قبضة الاحتلال البريطاني، لم يكن منحة منه أو هبة، بل انتزع عنوة من أنياب “الأسد البريطاني” ومخالبه، بقوة الثورة وبطولة الاستبسال في نضال التحرير المسلح، وليس فقط بقوة النضال السلمي أو الضغط الشعبي والسياسي.
كانت هذه الشهادات ولا تزال وستظل دامغة بقوة، في تقرير حقيقة أن تحرر جنوب الوطن ونيل استقلاله لم يكن بقرار انسحاب اضطرت لاتخاذه بريطانيا بفعل ضغط المجتمع الدولي، والمظاهرات والمفاوضات وعرض قضية الجنوب على الأمم المتحدة، كما يحاول البعض تصوير الأمر، في استغفال لواقع الحقيقية التي أكدها التعنت البريطاني.
لعل أبرز هذه الشهادات الماثلة حتى اليوم، قبور الضباط والعسكر والموظفين الإنجليز، التي تصدق أصوات شعرائنا المجلجلة، وأنها لم تكذب يوم صدحت تحرض للحق وتشحذ الهمم وتزين الحرية، فلم يكذب الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة يوم توعد الغزاة،قائلاً : “سنحمل بالأيادي النفوس رخيصةً .. ونطلي جلود الحمر بالزفت والقار* ونتركهم جاثين في كل شارع .. كأعجاز نخل كبها عصف إعصار”.
حقق اليمنيون بالفعل ذاك الوعيد، ولكن مع تغيير بسيط هو أن من عناهم «جرادة» جاثين اليوم في قبور منسقة، يسميها أهالي عدن «مهالك»، سبق لي أن زرتها في نوفمبر 2002م، ومازالت حتى اليوم تهدي زائرها ذات الشعور ونفس اليقين بأنها ستظل بحق شهادات دامغة لا تقبل التزوير على أن استقلال جنوب اليمن انتزع بالقوة، تماماً كما كان الاحتلال بالقوة.
ما يؤكد ذلك، أن «مهالك» الإنجليز في عدن ليست واحدة ولا اثنتين، بل أربع مقابر رئيسة لمن تسميهم بريطانيا «شهداء الواجب»، ونسميهم نحن «غزاة» باعوا أعمارهم يوم قرروا وتجرأوا على غزو مدينة ليست لهم، أغرتهم ثرواتها يوماً وتوهموا أنها ستكون لهم أبد الدهر، فأفاقوا على رفض كان لابد له أن يتفجر في نضال لا يعرف اليأس ولا الاحتواء، ولا يدرك غير الاستقلال هدفاً ومستقرا.
صرعى الاقتحام !
كان ميلاد هذا النضال منذ أول يوم، يوم اقتحام قوات الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها، لمدينة عدن، وكان على بريطانيا أن تفكر في مأوى لقتلاها .. فكانت أول مقبرة للإنجليز في مديرية «كريتر عدن»، مدينة عدن الأصلية آنذاك.
تقع هذه المقبرة اليوم، في حي مجمع البنوك، شرق أول كنيسة تقام في العصر الحديث للمسيحيين في شبه الجزيرة العربية.. وقد تكون هذه المقبرة أصغر مقابر صرعى الإنجليز في عدن، لكنها تعني الكثير للبريطانيين واليمنيين على السواء.
في هذه المقبرة “ترقد رفاة 13 ضابطاً وجندياً هنديا بريطانيا قادوا عملية اقتحام مدينة عدن، فلقوا حتفهم طعناً بسكاكين وخناجر أهل المدينة، الذين دافعوا ببسالة عن مدينتهم” حسبما أكد لي أستاذ التاريخ في جامعة عدن أ.د.شايف عبده سعيد.
قُتل هؤلاء الثلاثة عشر غازياً – وفي بعض المصادر قيل ثلاثة فقط – دفعة واحدة في يوم اقتحامهم عدن القديمة «جزيرة صيرة»، الموافق 19 يناير العام 1939م، فكانت أولى فجائع بريطانيا.
ولأن بريطانيا لم تكن تتوقع تلك البطولات من قوم حسبتهم حثالة صيادين بسطاء لا حول لهم ولا قوة، فقد كان مصرع هؤلاء الجنود والضباط، ثلاثة كانوا أو 13 هندياً بريطانياً، بمثابة كارثة كبرى بالنسبة لها!!.
لذلك حرصت بريطانيا، وهي صارت «الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس» باتساع رقعة مستعمراتها، تلك التي كانت لها بما فيها القارتان الأمريكيتان، حرصت على تخليد «شهداء أطماعها» ودفنهم في مكان عليا.
كان هذا التخليد أول ما فعلته بريطانيا بعدما وطأت أقدامها مدينة عدن، فشيدت نصباً تذكرياً لهم جوار كنيسة القديسة ماريا (مريم العذراء) التي اكتمل بناؤها لاحقاً في العام 1871م على التل المعروف «الجبل الأخضر» وعند العامة «جبل البادري» نسبة إلى التسمية المحلية للراهب «بادري».
مازال شاهد تخليد هؤلاء منتصباً هناك أسفل التل، وفيه تقول ترجمة ما بقي من حروف خطه سليمة : «للذكرى.. هذا نصب فرسان بومباي الأوائل الشجعان الذين سقطوا في احتلال عدن سنة 1839م وقتلوا،… الخ».
كانت الغلبة وبمنطق فارق العدة والعتاد، والحيلة والخداع، للإنجليز بالطبع، فتسنى لهم تنفيذ اقتحام مزدوج لعدن من جهة البحر (صيرة) ومن جهة البر (باب عدن)، بخلاف ما اعتادته المدينة وألفته في تصديها للطامعين على مر العصور.
مقاومة متواصلة
لم تفتر حِمية أبناء عدن وبقوا يقاومون الاحتلال بكل أنفة وعزة ورثوها عن أجدادهم السبئيين والقتبانيين والأوسانيين والريدانيين والحميريين، وبكل نخوة عروبية بذرها في دمائهم جدهم يعرب بن قحطان، جد العرب كلهم.
سقط الكثير من الشهداء اليمنيين في ملحمة التصدي للغزاة، بعد أن خذلتهم عدتهم وعتادهم، واستخدموا بعد أسرهم وتجريدهم بنادقهم، جنابيهم وطعنوا بها عددا من الغزاة، ضاربين مثالاً عظيماً «ومدهشاً في الاستبسال والشراسة» بشهادة قائد الاحتلال الكابتن هينس.
ظلت دماء هؤلاء الشهداء اليمنيين وقوداً للثأر المزدوج: ثأر الدم وثأر الأرض.. فسقط الكثير من الإنجليز صرعى النضال اليمني، الذي استمر وفق المصادر البريطانية نفسها، عنيفاً وعنيداً بتضافر جهود جميع مناطق لحج وأبين المجاورة لمدينة عدن.
استمر هذا النضال بذات القوة، انتفاضة تنجب أخرى، وحملة تنجب حملة، لم ينحصر تحريكها وانطلاقها وقواتها على مناطق جنوب اليمن فقط، بل ومن شمال اليمن أيضاً، باتفاق المصادر اليمنية والعربية والأجنبية.
حتى بعد تعزيز الإنجليز سريعا تحصينات عدن الجبلية والعسكرية الدفاعية من جهة البر الذي يصلها كالحبل السري بالوطن الأم اليمن، وتقوية استحكاماتها بالمدافع الحديثة والقوات العديدة.
رغم هذا العائق الذي ظل يحول دون نجاح تلك الانتفاضات والحملات اليمنية في استعادة عدن وتحريرها بحسب المؤرخين سلطان ناجي وعبد الله محيرز؛ إلا أن المقاومة اليمنية للغزاة نجحت في قتل كثير من جنودهم وضباطهم.
لم يهدأ أوار المقاومة اليمنية، حتى بعد ترسيم الاحتلالين البريطاني والتركي لليمن، حدود لما يقع تحت قبضتهما وتوقيعهما عام 1915م، اتفاقية قضت بفرض أول تشطير سياسي لليمن في التاريخ.
ظل شطرا اليمن يشهدان انتفاضات وثورات متعاقبة ضد المحتلين التركي والبريطاني، حتى بعد أن نجح المحتل البريطاني في تجزئة شطر اليمن الجنوبي إلى 23 سلطنة وإمارة ومشيخة، بإعمال منهج «فرق تسد» فيما بينها، لضمان تسيده عليها.
مع ذلك، وبفعل جنسية هذا الاحتلال الأجنبي التي تكسبه عداء أكبر من اليمنيين، بوصفه «إفرنجي كافر»؛ كان طبيعياً أن تستمر المقاومة الباسلة ولو بعمليات فردية ودرجات متفاوتة بين شديدة وفاترة.
لكنها في المحصلة لم تعرف الهوان ولا اليأس، وتباعاً فقد ظل الغزاة يتساقطون صرعى، واحداً تلو آخر، وظلت مقابرهم تتعدد وتتسع، ولسان حالها كما جهنم في نهم التهام الضالين والظالمين: «هل من مزيد؟».
مقبرة الرعايا
تابعت قوات الاحتلال تثبيت أقدامها وتحصيناتها العسكرية، وتطبيع العلاقات مع حكام الداخل وفق قاعدة «فرق تسد»، واستطاعت الاستحواذ على ما جاور عدن من مناطق، لتجعل منها جيوبا تؤمن عدن، الميناء الكوني.
لم تكد تمضي 17 سنة على الاحتلال حتى بدأ التفكير في مقبرة تسع لرعاياه وجنوده وضباطه، فأسس أسس السير «جونتري فاسكس» بحسب نائب مدير إدارة الآثار الأسبق نجيب الدبعي مقبرة ثانية للإنجليز في عدن.
أنشئت هذه المقبرة عام 1856م في مديرية التواهي، وتحديداً في منطقة «فتح»، جوار مستشفى القوات المسلحة البريطانية سابقاً «باصهيب» حالياً. وجاءت أكبر مساحة من سابقتها بكثير جداً.
جاورت هذه المقبرة، ما عرف بسجن «فتح» الذي كان يستقبل الثوار والمناضلين ويدفنهم أحياء داخل كهوف نحتت في جبل عرف باسم «طارشين»، فكان الداخل إليها في حكم المفقود، والخارج منها مولود، ولكن بشعر شائب أبيض وجسد هزيل هده الكبر ولم يبق فيه الوهن ما يُخشى منه.
لا تحظ هذه المقبرة بين أوساط الأهالي اليوم بذات شهرة مقابر الإنجليز الأخرى في عدن، رغم أنها قديمة وبها أطلال أضرحة يعود تاريخها إلى العام 1856 م، وبها أول موتى عائلات الإنجليز العسكريين والمدنيين أيضاً.
القفز من على جدار بارتفاع مترين أو أقل، ضرورة لبلوغ هذه المقبرة، فهو المدخل الوحيد إليها اليوم بعد حاصرها البناء العشوائي وهناجر كبيرة وكثيرة يقول نجيب الدبعي أنها كانت من أصل المقبرة وشيدت على قبورها.
ليس يسيرا الاهتداء إلى هذه المقبرة بلا دليل أو مرشد متقدم في العمر بالضرورة، بينما تمييزها يكون سهلاً فقط إن كان من الجو أو فوق جبل مقابل، إذ وحدها اليوم هي المساحة الشاغرة في المنطقة.
عند زيارتي لهذه المقبرة، بدا لافتاً أن شواهد معظم أضرحتها الرخامية مكسرة منثورة هنا وهناك، على اختلاف ألوانها الرمادية والبيضاء والحمراء والسوداء والزرقاء أيضاً، وأجزاء منها أصبحت علامات لحدود ميدان ومرمى ملعب ترابي لأطفال الحي!.
يبعث المشهد على التساؤل عن سر إهمال الحكومة البريطانية لهذه المقبرة بالذات وعدم اشتمالها بالرعاية ذاتها التي لغيرها من مقابر الإنجليز، فلا سور لها ولا حارس ولا بستاني، ولا أي شيء عدا شجرة كبيرة كثيفة الأوراق تظلل وربما تحجب الرؤيا عن ما تبقى من قبور سليمة شواهدها حتى اليوم.
لكنك حين تحاول ترجمة نصوص تلك الشواهد، تجد ما يدعوك للاعتقاد أنه سبب الإهمال، فعلى ضريح من الرخام الرمادي، كُتب ما ترجمته:«ضريح الشابة الجميلة (…) التي كرهت الحياة في عدن فانتحرت»!!.
تتساءل مجدداً، هل كان هؤلاء جميعهم من ذوي الرتب الدنيا، ممن لا مصالح خاصة لهم في عدن، وعمدت سلطات الاحتلال على استقدامهم وكان تواجدهم فيها «إلزامياً» في وظائف حكومية، مثلاً.. الله أعلم؟!!.
مدنية هذه المقبرة، تأكدت لنا من خلال معاينة كتابات أضرحة قبورها، ومنها شاهدان مثلثان بارتفاع ثلاثة أمتار أحدهما من الرخام الأسود والآخر الأزرق الغامق، ينتصبان على ضريحي اثنين من قساوسة المسيحيين (الباباوات).
يبقى أبرز ما يميز هذه المقبرة، المهملة، هو أنها غدت تحاكي مقابر المسلمين، إذ لم يعد أي صليب منتصباً على أي ضريح من أضرحتها، إلا ما كان منها منحوتاً في أصل قاعدة أو سقف الضريح!.
ومقبرة الألف !!
وعلى عكس حال هذه المقبرة البائسة، تبدو حال ثالث مقابر الإنجليز في عدن، النقيض تماماً .. ونعني تلك الواقعة في مديرية «المعلا» وتحديداً في حي يسمى «القلوعة» أو «حافون» سابقاً؛ تظهر للعيان مقبرة مرتبة ومصممة سلفاً لأن تكون كذلك.
تتقدم أضرحة هذه المقبرة أرقام تسلسلية، وبها مئات العسكريين الإنجليز بين صف ضباط قلدتهم ملكة بريطانيا لقب «السير»، وصف أفراد (جنود)، لقي بعضهم مصرعهم فرادا، وأعداد أخرى لقيت مصرعها دفعة واحدة.
أخبرنا بذلك أستاذ التاريخ في جامعة عدن أ.د.شايف عبده سعيد، حين التقينا به في نوفمبر 2002م. موضحاً أن عدداً كبيراً من رفات الجنود والضباط الإنجليز بهذه المقبرة، سقطوا خلال فترة الحربين العالميتين.
البروفيسور شايف، أكد أن عدن منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م وحتى انطفاء أوزار الحرب العالمية الثانية عام 1945م، ظلت تتعرض للقصف من إيطاليا وقوات معسكر دول «المحور» في الأولى، ودول المعسكر الشرقي في الثانية، لا لشيء عدا أنها مستعمرة للتاج البريطاني وقاعدة عسكرية رئيسة للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط.
لا يعني ذلك أن هذه المقبرة تخلو من قبور أقدم للإنجليز، فهناك أيضاً أضرحة يعود تاريخها إلى العام 1895م، وأضرحة إنجليز مدنيين من ذوي عائلات العسكريين والتجار الذين سال لعابهم كثيراً وشمروا سواعدهم حتى مناكبهم فغزوا عدن واحتكروا خيراتها فكانوا وسيلة تحقيق غاية احتلال عدن أولاً ثم تحويلها إلى مستعمرة للتاج البريطاني رأساً في العام 1937م بعد مضي قرن من اتباع إدارتها لمستعمرة الهند البريطانية.
بل أن هذه المقبرة تضم أضرحة حديثة تعود للعام 1999م الذي قتلت فيه ثلاث راهبات هنديات في الحديدة على يد جماعة شاذة عن عامة اليمنيين، تتخذ من الإسلام ستاراً وذريعة لممارسة تطرفها المشين، وهو منه بريء.
نفس المتشددون هم من «قاموا بالسطو على المقبرة وتدمير بعض أصلبة (جمع صليب) أضرحتها، بالذات التي كانت مصنوعة من الرخام، وربما كانوا هم أنفسهم من قام بسرقة كل صليب كان له بريق الذهب، رغم أنها في الغالب مصنوعة من النحاس»، وفق إفادة أحد جيران المقبرة منذ زمن واسمه لبيب جعفر العقربي.
عند مدخل هذه المقبرة، تنتصب كنيسة صغيرة، يقول جار أخر للمقبرة يدعى حزام محمد (70 عاماً) أن راهبها «كان دائم التواجد للصلاة على موتى الإنجليز ومن كان على ملتهم قبل مواراة رفاهم الثرى». ويردف:«لكن الكنيسة اليوم مهجورة وبداخلها القاري والمجرفة، وراهبها غير موجود».
ربما كان انقطاع تواجد هذا الراهب، لأنه أدرك متأخراً أن قطار الموت يتوقف بزوال أسباب سيرة، وأن قوافل قتلى الإنجليز انقطعت بزوال دافع القتل، وانقشاع الاحتلال.
لكن، وفقاً لقس إحدى الكنائس الثلاث الناشطة في عدن حتى الآن من أصل ست كنائس شُيدن في المدينة إبان الاحتلال البريطاني، «الأب بيتر كروكس» الذي يدير الكنيسة البروستانتية الواقعة في «رأس مربط»؛ فإن والده «كان جندياً في عدن في عام 1960م»، ويقول أن هذه المقبرة «تضم جثامين نحو ألف من الجنود والمدنيين البريطانيين الذين قضوا في عدن خلال الفترة 1865 وحتى 1965م».
صرعى الثورة
وبالمثل، رابع مقابر الإنجليز في عدن.. تقع على الطريق المؤدية إلى نادي المصافي، في مديرية «البريقة» بمنطقة «قرو» التي تسمى وادي الصمت، وتُعرف أيضاً باسم «معسكر صلاح الدين».
تعتبر هذه المقبرة، أكبر وأشهر واحدث، مقابر الإنجليز في عدن، وهي مرتبة ومنسقة لأن تكون مقبرة، ومصانة حتى اليوم، ربما لأنها تضم المئات ممن تسميهم بريطانيا «شهداء الواجب»، بينما هم في الحقيقة ضباط وجند الاحتلال البريطاني سقطوا صرعى نضال اليمنيين الممتد منذ اتخذ طابع الثورة المسلحة في الرابع عشر أكتوبر عام 1963م، وحتى رحيل أخر جندي بريطاني وانتزاع الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م.
استخدم المناضلون في حربهم الباسلة هذه، أسلحة ووسائل عديدة، بدءاً من استخدام الأسلحة الخفيفة وعمليات الاغتيالات بالقناصة، ومروراً بنصب الكمائن لدوريات الشرطة البريطانية في عدن، وإلقاء القنابل اليدوية على المنازل والدوريات العسكرية، ثم زرع الألغام الأرضية الموقوتة.
بل أن كثيرا من صرعى قوات الاحتلال هنا، قضوا بأسلاك شائكة بتارة «غير مرئية» كان الثوار ينصبونها في الشوارع لتقطع رؤوس العسكريين البريطانيين الذين يكونون واقفين فوق سيارات دورياتهم.
هنا أيضاً من لقي مصرعه بطرود ملغومة، وهناك من صرع بقذائف الثوار الصاروخية من طراز «روكبت لونشر» ومدافع الهاون (المورترز)، وانتهاءً بالعمليات الفدائية التي تشبه ما ينفذه اليوم الأبطال الفلسطينيين.
كان مصاب قوات الاحتلال البريطاني، كبيراً، فجاء معظم نزلاء هذه المقبرة ممن لقوا مصرعهم في 3685 عملية نفذتها جبهة النضال المسلح في عدن وحدها منذ نقل جبهة القتال من ردفان والمحافظات الجنوبية إلى عدن في بداية ديسمبر 1964م وحتى بداية أكتوبر 1967م.
أسفرت هذه العمليات وحدها، وبجانب «إصابة 880 بجروح خطرة»، عن «قتل 97 ضابطاً وجندياً وسياسياً ومدنياً بريطانيين» حسب الوثائق البريطانية التي يوردها المؤرخ سلطان ناجي في كتابه القيم «التاريخ العسكري لليمن..1839-1967م».
رتب ومناصب
وقد تعددت مناصب ومراتب نزلاء هذه المقبرة من صرعى المقاومة الشعبية..إذ بينهم السير «جورج هندرسن» مساعد المندوب السامي لعدن السير «كنيدي ترافيسكس» في عملية قنبلة مطار عدن (10 ديسمبر 1964م) التي أصيب فيها 53 بريطانياً.
كذلك ابنة قائد سلاح طيران الشرق الأوسط البريطاني (عملية يوم عيد الميلاد الأسود 24 ديسمبر 1964م)، و«أرثر شارلس» رئيس المجلس التشريعي وكمشنر الخدمة المدنية البريطاني في عدن (سبتمبر 1965)، وأربعة من كبار ضباط المخابرات والبوليس البريطانيين، وخمسة من السياسيين وغيرهم الكثير.
يضاف إلى صرعى النضال المسلح في عدن، مئات الضباط والجنود البريطانيين الذين قتلوا في مئات العمليات القتالية التي اضطلعت بتنفيذها 11 جبهة قتال شعبية توزعت في المحافظات الجنوبية التي عرفت «المحميات».
استمر نشاط هذه الجبهات منذ اندلاع ثورة ردفان في 14 أكتوبر 1963م، وحتى هزيمة آخر خمس حملات حربية واسعة شنتها بريطانيا في ردفان وما جاورها في 23 أغسطس 1964م قبل انتقال حرب التحرير إلى مدينة عدن نفسها.
إجمالاً، تكاد أضرحة هؤلاء المهلكين في عدن من غزاتها الإنجليز، تنطق قائلة: «ما ضاع حق وراءه مُطالب ولا دام مُلك لغاصب».
كنيسة مبادة
بحسب الأهالي والباحثين أيضاً، كانت تجاور هذه المقبرة كنيسة هي الأفخر بناءً وتجهيزاً بين كنائس الإنجليز في عدن، وأنها بقيت مشيدة جوار هذه المقبرة وتسمى «البيك كامب»، ويرجعون تميزها إلى أنها كانت الوحيدة المبنية كلها من الخشب الفاخر.
ظلت هذه الكنيسة تشهد الصلاة على صرعى المقاومة الشعبية، وأخر تلك الصلوات أقيمت يوم الجلاء بحضور كبار مسئولي حكومة الاحتلال وكبار الضباط البريطانيين، على روح قتلاهم، بحسب الأهالي في المنطقة!!.
غير أن الكنيسة اليوم، أطلال بناء، بعد أن دمرت وخربت «ونُهبت من كل ما يمكن أن يكون في كنيسة ذات أهمية» على حد تعبير أحد أهالي المنطقة واسمه محمد ناصر،الذي يقول:«إن الكنيسة بقيت قائمة حتى العام 1977م، لكنها تعرضت للتخريب من قبل جماعة من الناس غير معروفين، ربما كانوا ممن يقولون عليهم جيش عدن الإسلامي».
ناصر، مضى يقول: كانت هذه الكنيسة كبيرة الحجم والمساحة، حتى أن من دمروها لم يستطيعوا إزالة الصليب ولا الجرس التابعين لها، حتى بعد تحويل موقعها إلى مسجد، اليوم.
بقع.. وذهب !!
بقي أن نذكر، القيمة المعنوية لهذه المقابر بالنسبة لبريطانيا، فهي تلتزم منذ العام 1967م، برعايتها وتحديداً مقبرة الثالثة عشر في كرتير والمقبرة التي في القلوعة والمقبرة الأخيرة في البريقة، ومؤخراً قبل زيارتنا بأسبوع تقريباً، شاهد أهالي حي «القلوعة» امرأة أجنبية (ترتدي قبعة وتحمل دفتراً,..) أي باحثة على الأرجح.
تحدثت المرأة إلى الكهل «حزام» ولحارس المقبرة الذي عجزت كي التقي به ولم أستطع لعدم التزامه بدوام معين واسمه عبدالله حسين طالب (بدوي من ماوية) وأخبرتهم أنها مُكلفة بحصر أسماء أصحاب الأضرحة وتواريخ وفاتهم «كي نقيم لعائلة كل منهم احتفلاً بذكرى وفاته»!!.
الأهم من ذلك، هو القيمة المادية لهذه المقابر، فرغم «أن المعابد والمقابر محمية دولياً ولا تُخرب»، ورغم أن مدير عام وزارة الأوقاف في عدن حينها (نوفمبر 2002م) الشيخ طارق الطاهري، جزم قائلاً:«إننا مسؤولون أمام الله عن معابد الأحياء ومقابر الأموات أياً كانت ديانتهم»؛ إلا أن بريطانيا تلتزم منذ الاستقلال بمبلغ مادي لحكومة بلادنا مقابل الإبقاء على هذه المقابر وعدم التصرف بها أو بمواقعها كما حدث مع ثلاث من الكنائس في عدن.
لم أتمكن من معرفة قيمة هذا المبلغ الذي تدفعه الحكومة البريطانية سنوياً، إذ تحفظ المسؤولون في مكتب الأوقاف على ذكره حد الإنكار لوجوده أصلاً ولكنه إنكار بصيغة «الله أعلم إن كان في إيجار تدفعه بريطانيا أولاً».. كما أن السفارة في صنعاء لم تجب على الأسئلة المرسلة إليها حتى اليوم !!.
مع ذلك فقد عرفت ما يمكن أن يقود إلى تخمين قيمة المبلغ، وأنه كبير ولاشك، ربما إلى حد وصف أحدهم أنه «كان يمثل نصف ميزانية الدولة في الجنوب بعد الاستقلال»، وذلك بمعرفة أن حارس مقبرة «القلوعة» يتقاضى راتباً شهرياً من القنصلية البريطانية في عدن، قدره 400 دولار أمريكي.. فإذا كان ذلك هو ما يتقاضاه حارس عادي، فكم يا ترى تتقاضى دولة بها آلاف الحراس !!.
أمر مادي إيرادي أخر، يُضاف إلى قيمة هذه المقابر التي تستحق أن نسميها «بقعاً من ذهب»، هو ما تدره حركة السياحة الأجنبية في عدن، والتي تتصدر أغراضها الرئيسة زيارة ذوي نزلاء تلك المقابر في عدن، وهي الزيارات التي أكد لنا جيران كل مقبرة من المقابر الأربع «أنها مستمرة إلى ساعتك والآن»، وبصورة لا تعرف الندرة !!.
مفارقات مؤسفة
في المقابل، ثمة مفارقات عجيبة ومؤسفة.. تبرز حيال هذا التخليد لمعالم أضرحة صرعى الغازي المحتل الأجنبي، وهي تبديد معالم أضرحة المناضلين الوطنيين، أولئك الثوار اليمنيين، الأحرار والأبطال، في ردفان، والضالع، وعدن، ومختلف مدن جنوب الوطن وشماله!!.
حدث هذا – بكل أسف – مع ضريح غير مناضل وطني سقط في معارك الكفاح والثورة اليمنية ضد الاحتلال البريطاني، وبينما بقي كثير من شهداء النضال والكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، بلا قبور معروفة حتى اليوم؛ فقد جرى مسح معالم القبور المعروفة للبعض منهم، ومحو بيانات شواهد أضرحة البعض الآخر.
كان هذا، وفق لإفادة كثير من الباحثين وكثير من المقيمين بعدن ومناطق جنوب الوطن، إبان عهد الاقتتال المحلي بعد نيل الاستقلال الوطني، بين فرقاء السلطة من رفقاء، الجبهات الثائرة أجمالاً !!.. فهل تصحح هذه المفارقات؟.. ليت أن ذلك ممكن.