بين الثقافة.. وقلة الحيا !!
ضرار الطيب
* مثقف متحرر يمتلئ رأسه بنظريات التقدم وأطروحات المدنية والسلام يستطيع أن يحدثك عن الإنسانية حتى يتحول أمامك إلى حمامة بيضاء ، وتتصور أنه مطبخ بيته ليس فيه سكيناً لفرط حساسيته تجاه الدم ، ولكنه يستطيع أن يتحول فجأة وبنفس القدر من الفهلوة إلى مروج للموت ، عندما “يرى” فقط أن ذلك يخدم “القضية” التي ينحاز إليها فكرياً. وليس من حقك حتى أن تحك رأسك تجاه ذلك .
في 2011م. كان كل هؤلاء الإنسانيين يتسابقون على صياغة أكثر العبارات زخرفة وتحريضاً للشباب على الموت في سبيل “الثورة” ، والكثير من الشباب ماتوا فعلاً، ولكن لم يحدث أي شيء للثورة ، وفي الأخير “لعنتي” كانت هي العزاء الوحيد الذي استطاع هذا المثقف المحرض أن يقدمه لجماهيره .
الآن وبنفس التسابق أعادوا ترتيب نفس العبارات ولكن بتشكيل انساني يعتبر حتى التفكير في الموت ، أو التحدث عنه جريمة إنسانية وجرثومة قاتلة في جسد الوعي المدني ، هذه كلماتهم الطنانة طبعاً حينما لا يرون أيّ “مصلحة” تستحق الموت لأجلها . أما العامة المساكين الذين لم يقرأوا الثورة الفرنسية وكتابات هيجل وماركس ، ولم يحالفهم الحظ بامتلاك روايات ما بعد الحداثة .. هؤلاء المفروض أنهم أغنام ينتظرون حضرة المثقف المدني ليعلن لهم ماهي القضية التي تستحق الموت وماهي التي لا تستحق !
المشكلة الآن أنهم لم يعودوا بحاجة للكثير من الوقت كي يناقضوا مواقفهم فالأحداث تتسارع بشدة والمصالح تتضارب ويا لله تلحق لك مكان تشتهر ، وهكذا يجد هذا المثقف المدني -الإنساني – نفسه مضطراً لانتقاد “القتل” في الليل ، والتحريض والتبرير لـ”القتل” الآخر في النهار ..فالمسألة كلها مجرد نظريات بالنسبة له .
في الصباح يتعرق جبينه وهو يبتهل لإغاثة “المدنيين ” المحاصرين في تعز ، وفي المساء يناطح السماء فرحاً باستلام “مقاتلي المقاومة” لأسلحة نوعية جديدة ، وقبل أن ينام يقول : “أبعدوا تعز عن الحرب .. نعم للسلام ، تصبحون على خير ”
قبل القات يريد دولة مدنية خالية من الاحترابات الداخلية ، ووقت القات يتحدث وكأنه خلف مترس ، وبعد القات يريد لجوءاً سياسياً في سويسرا وطز في الوطن.
لديه هوس التنظير والحكم على الأشياء وكأنه خلق بصفارة في الفم وكروت صفراء وحمراء في الجيب ليجلس خلف شاشة الكمبيوتر ويصدر الأحكام فقط ، وعلى ماذا كل هذا النخيط؟ المثقف ليس نبياً وهو أيضاً له أمراضه ، وهي كثيرة جداً لا تقل عن تلك التي قد تستوطن رأس عالم الدين ، فكلاهما مشتركان في إلقاء النظريات الفوقية ، ويمكن أن نقول بأن المثقف المريض هو رجل دين طائفي متعصب ولكنه يشرب سجارة لا أكثر ، وبوسعهما أن يتسببا بنفس الكوارث.
رأينا مثقفين يهللون للعدوان ، ورأيناهم وهم يبررون لسلخ الموتى ، ورأيناهم وهم يحرضون على الاقتتال الداخلي .. وبالعلن وبدون حياء ، لم يعد هناك داع لاعتبار المثقف رجلاً مرهف الإحساس يطمح فقط أن يحصل على اللون الثامن من ألوان الطيف، فالمثقف مثل غيره يستطيع أن يمارس كل أشكال النذالة والإرهاب أيضاً .. وبكل بجاحة ، خاصة في هذه الفترة حيث لم تعد هناك أي تكاليف لممارسة قلة الحيا ، بل إن الموضوع صار مغرياً كونه يوفر شهرة تكفي لإرضاء غرور شخص واسع الأفق بدرجة مثقف حداثي إنساني مليء بالأمراض والعقد ، وليس الشهرة فحسب بل هناك أكثر ..
زمان كانوا يقولون “قلة الحيا تشتي ديانة “.. والآن صارت “قلة الحيا تشتي ثقافة”.