كربلائيات الزمن المعاصر
ثمة نظرية حديثة تتحدث عن سيوسولوجيا الثقافة وتتحدث عن التلقي وسياقه وثمة نظرية حديثة أيضا تتحدث عن الثقافات الإنسانية وعن الثورات وتكيف الثقافات والحضارات مع كل جديد, وقد أصبح من المسلمات ومن البديهات القول إن الثقافات القديمة لا يمكن محوها في مقابل الثقافة الأجد ولذلك حين جاء الإسلام لم يمحُ الثقافة الجاهلية محواً لم يبق أثراً بل حدث العكس فالثقافة الجاهلية أعادت إنتاج نفسها في السياق الاجتماعي والحضاري والثقافي الجديد ولذلك لا يمكن أن يقال أن الاسلام جب كل حزازات النفوس التي واكبت العرب في شبه جزيرة العرب وقد تجلت الرموز والإشارات منذ يوم السقيفة وامتد الصراع بين خطين هما خط هاشم وخط أمية وقد تحدثت بعض الروايات في كتب الأخبار القديمة وكتب التاريخ عن أبي سفيان حين وصلت الخلافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه انتفض قائلاً: تلقفوها يا بني أميه فوالله ليس هناك من جنة ولا نار وإنما هو الملك فعضوا عليه بالنواجذ, وذات المعنى ترويه الكثير من كتب التاريخ والأخبار على لسان يزيد بن معاوية وهو يتحدث عن كربلاء في بضع أبيات منها قوله:
لعبت هاشم بالملك فلا ….. خبر جاء ولا وحي نزل
ومن يقرأ الكتب القديمة يجد أن حزازات معاوية وابنه يزيد وربما ذلك الحي من أمية كله لم يمحها الإسلام الذي جعل منهم ملوكا وأمراء فمعاوية تروي كتب الأخبار الكثير من مواقفه التي تحتاج سفراً كاملاً لمناقشتها ويكفي هنا الإشارة إلى مواقف من بعض رموز همدان ورموز اليمن من شيعة هاشم وتكفي الإشارة إلى قصته مع الطرماح على أبواب دمشق ومن العجائب أن تجد في كتب التاريخ قولاً منسوباً ليزيد ابن معاوية يرى فيه أن كربلاء لم تكن إلا حالة ثأرية لقتلى موقعة بدر ويبدو أن القارئ للطبري والمسعودي وابن هشام والأبريشي وغير أولئك يجد أن الصراع العربي تمايز بين حيين من أحياء العرب هما حي أميه وحي هاشم , وظل ذلك ديدن المراحل التاريخية المختلفة في صور وأشكال مختلفة وظل الحقد المتأصل في حي أمية ممتداً في سياق التلقي الثقافي الذي حاول أن يصبغ نفسه بصبغة عقائدية وثقافية في مراحل التاريخ المختلفة وقد رأينا في بداية تأسيس الدولة العباسية هول الصراع وحدته بين هاشم وأمية وقرأنا في تلك الكتب تمايزاً واضحاً في التفاعل الحضاري بين الدولة الأموية والدولة العباسية وكأن ذلك الضلال ما يزال مشهوراً بما يماثله اليوم فالترف والاشتغال على الضياع والإماء وألوان الطعام وأنواع الأشربة والشهوات والملذات صفات نجدها عند أناس بعينهم ونجد الحكمة والسياسة والتفاعل الحضاري والاشتغال على المنافع العامة والخاصة والابتكار والإبداع والإنتاج عند أناس بعينهم, بالمعنى الأقرب إلى الذهن والواقع المعاش نجد المترفين من الأعراب لا هم لهم إلا الملذات والشهوات والمنتجعات ورحلات الصيد والتطاول في البنيان والتفاخر بالإماء والجواري وغير ذلك من المظاهر الاجتماعية الدالة على الترف وفي المقابل نجد الثورة الإيرانية ذات البعد العقائدي الشيعي الاثني عشري تحمل مشروعاً سياسياً ومشروعاً ثقافيا ومشروعاً اقتصادياً وحضارياً, وقد استطاعت تلك الثورة انتزاع اعتراف المجتمع الدولي بها كدولة نووية في حين يذهب الأعراب إلى التحور حول الفكرة الدينية ومحاولة إعادة إنتاج الصراع بين هاشم وأمية في صبغة عقائدية, أي بين ثنائيتين طائفيتين هما السنة والشيعة وكادت السعودية بكل محمولاتها الثقافية السياقية التاريخية أن تنتج كل عقد من الزمان كربلاء جديدة وهي تجد ذاتها في الثأر التاريخي بدءاً من نبش قبور الصحابة في عام 1926م وصولاً إلى ما تقوم به اليوم من قتل وتدمير وإبادة في اليمن وفي سوريا وفي العراق وفي ليبيا ولبنان وقد تجاوز بها الحال إلى قتل الحجاج في منى وقد ذهب الشيعة بنصيب الأسد, وكأن الحادث كان مدبراً بآلية محكمة باعتباره تعبيراً عن حالة سياسية وتاريخية وإن كانت المظاهر الشكلية لا توحي بذلك إلا أن الحقيقة المرة تعود إلى التلقي السياقي للمحمول الثقافي.
لم تكن كربلاء حدثاً عابراً في مجرى الحدث التاريخي بل كانت حدثاً ثوريا ممتد الأثر والتأثير, وقد أوحى دم الحسين الذي يتقد كل عام في وجدان الإنسانية جمعاء بحاجة البشر إلى الثورة باعتبارها حركة تدافعية خوف الفساد في الأرض كما أن حالة القتل والدمار التي تحدث كربلائيات جديدة لم تتجاوز نسقها التاريخي.