شعرية النص الموازي

عبدالله أحمد حسين


يسعى الروائيون للتعبير عن مواقفهم من العالم, وينطلقون من رؤى محددة لمحاورة ذلك العالم أملا منهم في إنشاء عالم مغاير, يتجسد قبل كل شيء في كلماتهم, ويتجلى في بناء أعمالهم, وما يحيطون به ذلك العالم من مصاحبات نصية.
وعليه فإن دخولي إلى عالم الكاتبة صفاء الهبل في روايتها الأولى “قدري فراشة” سيكون عن طريق الوقوف على بعض المصاحبات النصية, لبيان مدى قدرة تلك المصاحبات على عكس محتوى الرواية وموازاته, وستكون محطتنا الأولى عند صفحة الغلاف, وما اشتملت عليه من نصوص موازية.
وأول ما يلفت نظر المتلقي في صفحة الغلاف هو سيطرة اللون الأسود سيطرة تامة, كادت تأتي على مكونات الغلاف كالعنوان واسم الكاتبة, والتعيين الأجناسي ولوحة الغلاف.
ولا شك أن هذه السيطرة للون الأسود لها دلالتها التي نستشفها من مخزوننا الثقافي, الذي يربطها بعالم الحزن والستر والحجب والتغطية, رغم ما للون الأسود من جماليات تجعله يتصدر الألوان ويسمى بملك الألوان أو سيدها فهو لون الحزن والقتل والوحدة والإحساس بالوحشة, يوحي بسوداوية حياة الساردة, كما يوحي بضياع آمالها وتحطم أحلامها, بعد موت والدتها.
وقد امتدت ظلال اللون الأسود إلى النص, حيث نجد أن الساردة تركز على هذا اللون وتذكره في سردها أكثر من ذكرها لغيره من الألوان, وهذا يوحي ويشير إلى الجو النفسي المسيطر على الرواية, فحين تتحدث عن جارهم الطبيب تركز على لون حقيبته السوداء(), وعندما تري شقيقتها الصغيرة القطط, فإنها تتحدث على تلك القطة السوداء(), وحين تصف والدها تركز على رموشه السوداء التي أورثها لشقيقتها(), ذات الشعر الأسود الذي يتبعثر فوق وجنتيها().
ولا تكتفي الساردة بتتبع اللون الأسود فيما حولها بل إنها تأخذ بتلوين كل ما حواليها به فتترنم “بنشيد مفاتيحه خطوات ترسم بلون السواد..”(), وحين تلعب فإنها تلعب مع ظلها الأسود(), لأن والدها : “لا يسمح لنا بشيء سوى اللعب بظلي .. صديقي الأسود”.()
ويمتد اللون الأسود إلى صورة الأب الذي “صنعوا منه سيمفونية متجانسة من الألم لا تضج بغير السواد..”(), ولذا فإن الساردة تتساءل عن مستقبل هذا الوالد, الذي سيطارده السواد كثيرا فتقول: “يبدوا أن أبي لا زال في الغرفة لم يتحرك منها منذ الأمس, أرثي لحاله كم سيجد من سواد في حياته..”()
وإذا ما انتقلنا إلى العنوان فسيبدو لنا في البداية مفارقا للون الأسود ودلالاته, لأسباب عدة لعل أبرزها أن الفراشة رمز للجمال والخفة والمرح, ويؤيد هذا أن الفراشة التي تحلق في أعلى الغلاف كان لونها أبيضا وهو اللون الذي كتبت به عبارة العنوان واسم المؤلفة والتعيين الأجناسي.
وبشيء من التدقيق في بنية العنوان المكونة من مبتدأ وخبر “قدري فراشة” تهتز قناعتنا بمفارقة العنوان للون الأسود ودلالاته المعروفة لدينا – رغم المبررات السابقة- فالعنوان حين يربط القدر بالفراشة يدعونا للتساؤل عن مغزى الكاتبة من وراء هذا العنوان, وعن العلاقة بين الفراشة والقدر, فهناك العديد من المضامين التي تمثلها الفراشة فهي كما قلنا سابقا رمز للجمال والخفة والبهجة, إلا أنها ترمز من جانب آخر للضعف والضآلة وقلة الحيلة فضلا عن قصر العمر, واحتمال احتراقها في لهب أول شمعة تجتذبها حين ينشر الظلام أجنحته.
وإذا أضيف إلى ذلك كله جنس الكاتبة وتم ربطه بياء المتكلم في “قدري” فإن الصورة تصبح أكثر وضوحا, وتزداد القناعة بانسجام العنوان مع لون الغلاف, رغم قناعتي بأن هناك مسافة فاصلة بين الكاتب ونصه وأن شخصيات عمله لا تطابق شخصيته الواقعية, بحيث يعد العمل بمثابة السيرة الذاتية للكاتب, فهناك فرق بين الراوي والروائي, وما سبق ليس إلا من باب محاولة التقريب بين عناصر الغلاف.
ومع ذلك فإن قارئ الرواية سيؤيد ما ذهبنا إليه حين يجد أن الراوي كان شخصية نسوية وهي الشخصية الرئيسة في الرواية التي تمحورت أحداث الرواية حولها, وبهذا يمكننا أن ننسب ياء المتكلم في عنوان الرواية إلى هذه الشخصية التي تولت سرد أحداث الرواية.
ولعل المتأمل في صفحة العنوان مرة أخرى لن تفوته ملاحظة حجم الخط المستخدم في كتابة العنوان واسم المؤلفة والتعيين الأجناسي, حيث جاء العنوان بحجم كبير وبارز ساعد على أن يكون العنوان أكثر بروزا وتبئيرا ليضمن بذلك لفت نظر المتلقي إليه قبل سواه, في حين جاء اسم المؤلفة بخط ضئيل لا يكاد يرى لضآلته, والزاوية التي تم حشره فيها, ولا يختلف الأمر في التعيين الأجناسي للعمل حيث في الزاوية اليمنى من منتصف الغلاف بالحجم نفسه.
هذا يدعو للقول بأن الكاتبة قد أرادت أن تعبر من خلال ذلك عن مكانة المرأة في مجتمعنا الذكوري الذي يسعى لحصرها – إن لم نقل حبسها, وهو ما عانت منه بطلة الرواية – في زوايا ضيقة, وأن تعكس تلك النظرة من خلال صفحة الغلاف بلونها الأسود المثير ومكوناته الأخرى, وهذا ما ي

قد يعجبك ايضا