في تاريخ الشعوب لحظات خالدة يُسطَّر فيها المجد بالدم، وتُكتب فيها الحقيقة بأغلى ثمن. وما جرى في صنعاء حين استهدف طيران العدو المرافق الإعلامية والمدنية، فسقط كوكبة من صحفيي صحيفة 26 سبتمبر شهداء، ليس مجرد واقعة عابرة، بل فصل مشرق في سجل الوعي الوطني والمقاومة الإعلامية. لقد ارتفع القلم فوق صوت الطائرات، وأثبت أن الكلمة الحرة لا تُقصف، وأن الصحافة الصادقة أقوى من كل آلة حرب.
هؤلاء الشهداء لم يكونوا مجرد ناقلين للأخبار أو محررين للنصوص، بل كانوا حراساً للوعي الجمعي، وجنوداً على جبهة موازية لجبهات القتال. اختاروا أن يقاوموا بالكلمة كما يقاوم الآخرون بالبندقية، وواجهوا الموت بصدور مفتوحة لأنهم أدركوا أن الرسالة الإعلامية ليست مهنة عابرة، بل عهد وواجب ومسؤولية.
لقد أراد العدو من خلال قصف المؤسسات الإعلامية أن يغتال الحقيقة وأن يُخرس صوت المقاومة. فالمجزرة لم تستهدف أجساد الصحفيين فقط، بل كانت محاولة يائسة لطمس رواية شعب بأكمله. لكنه أخطأ التقدير، فالدماء التي سقطت تحولت إلى مداد جديد يكتب ألف كلمة، وإلى نور يضيء للأجيال أن الصحافة الحرة لا تنكسر.
إن استهداف صحيفة وطنية بحجم “26 سبتمبر” ليس إلا دليلاً على أن العدو يدرك خطورة الإعلام الصادق في كشف جرائمه وفضح زيف دعايته. فقد ظن أن إسكات الأقلام سيطوي الحقيقة، غير أن دماء الشهداء صارت أقوى بيان، وأعظم وثيقة، وأبلغ حكاية.
شهداء الكلمة جسّدوا حقيقة أن الصحافة في اليمن ليست عملاً مهنياً فحسب، بل جبهة قائمة بذاتها. لقد قاوموا الحصار والتعتيم والتضليل، وصنعوا بإصرارهم خطاباً وطنياً يُعلي من شأن الحرية ويثبت أركان الهوية. ورغم رحيلهم، فإن رسالتهم باقية، تتردد في كل قلم يكتب بصدق، وفي كل صورة توثق المأساة، وفي كل صوت يفضح العدوان.
واليوم، تقع على عاتق كل صحفي وكل كاتب مسؤولية أن يواصل المسيرة، وأن يحمل أمانة الشهداء، فيحوّل الإعلام إلى معركة وعي لا تقل أهمية عن معركة الميدان. فالحرب لم تعد بالسلاح وحده، بل هي حرب روايات، وحرب صور، وحرب وعي. ومن يفوز بالرواية يقترب من النصر.
لقد أراد العدو أن يقتل الحقيقة بقصفه الوحشي، لكن الحقيقة ارتقت مع الشهداء وصارت أكثر حضوراً وسطوعاً. إن دماء الإعلاميين في صنعاء لا تعني فقط خسارة مهنية أو مؤسسية، بل هي شهادة على أن الحرية ثمنها غالٍ، وأن اليمن يقدم للعالم درساً في أن الصحافة قد تتحول إلى جبهة مقاومة، وأن الصحفي يمكن أن يرتقي شهيداً وهو يكتب أو يصور أو ينشر.
رحم الله شهداء الكلمة، وأسكنهم فسيح جناته، وجعل دماءهم لعنة على المعتدين، ونوراً لا يخبو في دروب الأحرار. لقد رحلوا بأجسادهم، لكنهم باقون في ذاكرة الوطن، قناديل تضيء التاريخ، وأصوات ارتفعت فوق الطائرات لتقول: إن الكلمة لا تُقتل.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.