الهوية بين الحلم والتاريخ

هشام علي



في بحثه السردي عن الهوية يقوم الروائي بتحبيك الأحداث التاريخية ولا يكتفي بروايتها وحسب.. وكذلك يقوم بحبك الهوية ويعيد صياغتها ليصل إلى تشكيل تاريخانية خاصة للمدينة.
نبدأ من إحساس الراوي بأزمته الخاصة أزمة الأنا والآخر ميشيل وفرانسوا أزمة الهوية الموزعة بين فرنسا وعدن أنا هو الآخر كما قال سلفه الفرنسي آرثر رامبو الذي عاش في عدن في أواخر القرن 19 لم يكن ميشيل بعيدا عن ظل رامبو وإن لم يذكر اسمه بشكل صريح “وما الذي جاء بك إلى هذا الجحيم”¿
هكذا سأله الضابط البريطاني مستعيدا عبارة رامبو عن “الجحيم العدني”.

لقد تخلى رامبو هو الآخر عن هويته حين وصل إلى عدن. تخلى عن هويته الشعرية وذاكرته الإبداعية وانطلق للعمل في التجارة. تنكر رامبو لشجرة أنسابه الشعرية واكتسب هوية التاجر وظل يتنقل بين عدن وهرار في الحبشة ليتاجر بالبن وبالأسلحة أيضا كما يقال.
رامبو وقع هو الآخر في حبائل الهوية العدنية سار مع الطرائق الصوفية في عدن وكان يحلم بالزواج وأن يخلف ولدا يسميه (محمدا) ويعلمه مبادئ الإسلام وقبيل وفاته وبعد أن بتر الأطباء ساقه كان يطلب من شقيقته أن تحجز له تذكرة في المركب المتوجه إلى عدن هل نستطيع أن نمنح رامبو صفة الانتساب إلى عدن فنسميه رامبو “العدني”¿
يجمع الروائي شخصيات أخرى وهويات أخرى متعددة ولا يقوم بسرد تواريخها الساكنة والمنفصلة والمتباعدة ولكنه يقوم بسردها ضمن تشابك تاريخي وفي دوائر جغرافية متقاربة داخل مدينة عدن التي يشعر الجميع بانتمائهم لها وأنهم جزء من ثقافتها وتاريخها.
ولكن يظل سؤال الهوية مشتبكا مع كل هذه التواريخ المتعددة واللغات والانتماءات ومع الفنانة شمعة ندخل مختبرا آخر للهويات المتشابكة والتواريخ المتقاطعة كانت الفنانة اليهودية الشهيرة شمعة تغني في كازينو البندر أربع ليال في الشهر كل ليلة تخصصها لأتباع قومية أو ديانة من الديانات ولكنها لم تستمر بالغناء بهذه الطريقة ورفضت هذا التقسيم. الآن صارت تغني للجميع كل ليلة خميس.
كانت شمعة توحد الحضور بأغانيها .. كلمات بكل لغات الحضور وموسيقى من الهند والسند ومن كل مكان يقول ميشيل.. ولكن ذات ليلة حصل عراك في الكازينو حين طلب منها البعض أن تغني بالعبرية واعترض آخرون وطلبوا أن تغني بالعربية.
أن سرد الهويات ليس قصا محايدا هذا السرد ليس بعيدا عن الصراع هكذا يرى ميشيل أن الحرب العالمية التي هرب منها إلى عدن والتي أعلن عن نهايتها هذه الحرب لم تنته كما يقولون. لقد جاءت وراءه إلى عدن “حين استيقظت على قوع طبول مفزعة في الساعة السادسة إلا أربع دقائق من صباح ذلك اليوم الخريفي شعرت أن حدثا ما غير عادي قد حدث في عدن أدى إلى تأجيج المدينة البركانية الحارة في غير فصلها الصيفي”.
لقد انفجر البركان العدني معارك وقتلى وجرحى وحرائق في كل مكان المتظاهرون يهاجمون اليهود في بيوتهم ومحلاتهم التجارية وشوارعهم لا يصدق ميشيل ما يراه من مناظر رهيبة “الحرب لم تنته” هكذا يقول في سره معلنا حسرته على ذلك الحلم العدني.
الحلم والتاريخ
تظهر الأحلام في أكثر من موقع من الرواية.. ولا أعرف هل تمثل هذه الأحلام فسحة للتخييل أم فرصة لسرد وقائع تاريخية بطريقة ضبابية هل هي نبوءات تتعلق بالحاضر والمستقبل لهذه النبوءة التي تختلط كثير من حوادث ماضيها بالأسطورة والخيال ليست الحوادث التاريخية نفسها ما أقصد ولكن عملية سردها وحكايتها.
كيف تظهر الأحلام في الرواية¿ ولماذا لجأ الكاتب إلى الحلم يخرج بطل الرواية الفرنسي ميشيل من حلم ماما كان الحلم بمثابة ولادة جديدة لهذا الشاب الفرنسي ليبدأ حياة أخرى في عدن لقد تخلص من اسمه ووطنه وذكرياته ليكتسب هذه الولادة. الفتاة السمراء التي التقطته في عدن وحلمت به قبل أيام من وصوله ثم رأت حلمها يتحقق فعليا تفاءلت ماما بهذا الحلم- الحقيقة الذي تمثل لها شابا فرنسيا أخذت تكلمه بالفرنسية كأنها خلطت حينها بين الحلم والواقع وهكذا سارت أمورهما طوال الرواية حتى أن الحب الذي ظل مختفيا بينهما كانا يكشفان عنه في الحلم فحين فكر ميشيل أن يقبلها ليعرف حقيقة مشاعرها نحوه لم يجرؤ على فعل ذلك خاطبها قائلا:
“حلمت أنك تقبلينني وتعانقينني وأنا صامت لا أعمل شيئا فقلت مبتكرا حيلة” كيف¿ هل يعقل هذا¿ لقد تراءى لي الحلم نفسه “قالت ضاحكة ومدت يديها إلي”.
ميشيل وماما عاشا قصة حب وكانا مقتنعين على البقاء داخل الحلم كذلك كان غرامه بالفنانة شمعة حلما يختلط بالحقيقة . ففي لحظة البهاء والتجلي التي عاشها وهو يسمع شمعة لأول مرة تغني داخل الكازينو, اندفع بعيدا في الحلم .أحس أنه أصبح عاشقا لهذه الفنانة وعاشقا لأغنياتها التي جعلت الجميع يرقصون ويحلقون بأحلامهم

قد يعجبك ايضا