السرعة2
محمد المساح

يتساءل كونديرا.. كما قلنا بالأمس عن أبطال الأغاني الشعبية: هل اختفوا بإختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة¿ يعرف أحد الأمثال الشعبية التشيكية كسلهم مجازا قائلا: إنهم يتأملون نوافذ الله ومن يتأمل نوافذ الله لا يسأم أبدا بل يكون سعيدا في الوقت الذي أصبح فيه الاسترخاء في عالمنا هذا بطالة وهذا أمر آخر تماما.. إذ يبقى الأمر الذي لا يجد ما يفعله في حالة إحباط وملل وبحث دائم عن الحركة التي يفتقدها.
يتساءل أيضا: ها أنا أرى في المرآة: السيارة التي تتبعني تحاول تجاوزي لكنها لا تستطيع بسبب السيارات القادمة من خط السير المعاكس هناك تجلس امرأة بجانب السائق لم لا يروي لها الرجل أمورا مضحكة¿ لم لا يضع راحة كفه على كفها¿ إنه يشتم عوضا عن ذلك سائقي السيارات الذين أمامه لأنهم لا يسرعون ولا يخطر في ذهن المرأة أن تلمس يد السائق بل تشاركه القيادة ضمنيا وتكيل لي السباب أيضا.
هذا الإيقاع السريع للعصر ومذهبه النفعي يجعل كونديرا يوضح جانبا من الصورة: إليكم ما يخدع به مما لقوا الحدث الأخباري ألايدركون بأن الحالات التي سلط التاريخ عليها أضواءه لم يسلط عليها الضوء إلا في الدقائق الأولى فقط فلا يمكن لأي حدث راهن أن يظل خبرا مستمرا طوال حدوثه بل فقط في جزء قصير جدا من الوقت في بدايته ألن يموت أطفال الصومال المحتضرون والذين شاهدتهم الملايين بلهفة كبيرة جدا ماذا حل بهم¿ هل سمنوا أم إزدادوا ضمورا¿ هل الصومال نفسها ما زالت موجودة¿ ويتحدث كونديرا في روايته البطء: تشبه طريقة راوية التاريخ المعاصر حفله موسيقية كبيرة يعزف فيها بشكل متواصل (138) مقطوعة موسيقية لبيتهوفن لكن العزف يقتصر على الإيقاعات الثمانية الأولى من كل مقطوعة.
فإذا تكررت تلك الحفلة خلال عشر سنوات فلن يعزف من كل مقطوعة سوى النغمة الأولى منها وبالتالي ستعزف 138 نغمة خلال الحفلة كلها كلحن واحد وستختصر موسيقى بيتهوفن خلال عشرين عاما إلى لحن واحد طويل وحاد يشبه الطنين الذي سمعه في اليوم الأول.
في هذا العصر العجيب لا شيء يظل في الذاكرة كل شيء يذهب ويختفي بسرعة ويطوي ويتلاشى كالمناديل الورقية.. ولا حميمية في العلاقات ولا تأمل يسرع الإنسان خطواته بطريقة لا شعورية كمن ينأى بنفسه عن شيء قريب جدا منه في الزمن¿