عبث المسرح
محمد السقاف

مقال
شمطاء غريبة المصدر تباغت الجميع بعبورها على خشبة المسرح.. تحطم أبواب المسرح الكبير أمام أعين الناس والحراس .. تربك أبطال المسرحية وتنقض على انسجام مشهد دافئ يلخص استقرار أسرة سعيدة .. “كأي أسرة سعيدة في هذه الحياة”.. تستقر العجوز في صدر المنصة بالتمام.. تعطي الموجودين قفاها بلا اكتراث وتتفرس جميع الممثلين حولها باحتقار ثم تتصلب عيناها عند أكبرهم سنا والذي كان ببراعة لا متناهية يقوم بدور الأب الحنون كما يحدث عادة في الواقع.. تندفع العجوز صوبه مثل وحش جائع .. تزرع مخالبها في قميصه بإحكام ثم تسحبه وراءها وهي بهستيرية تضحك. عجوز مريعة بشهادة كل مرايا هذا العالم .. لكنها على نقيض كل شيء .. تصبح أبشع شيء فيه عندما تضحك لا يدري أحد هل من مغارة الشيطان هبطت¿ أم من قرارة الجحيم صعدت¿ طرأت على المسرح واعتدت على تواتر الأحداث كما يفعل الحظ التعيس تماما أمام انبهار الجمهور الذي كان يعتقد أن هذا الانحراف المفاجئ الذي خدش السيناريو وشوه المشهد ما هو إلا انفجار منطقي جراء معادلة المصير بعد مضاعفة جرعة “كلوريد الصوديوم” ضمن واحدة من ذروات التفاعل الدرامي بين عناصر الحبكة – الملح ذلك العنصر المر الذي لا يضاف إلا بإرادة مؤلف هذه المسرحية الأكبر المهووس – وهذا واضح – باجتذاب الأضواء نحو قدرته وعبقريته والمستعد لتعميدها لقاء أي شيء حتى ولو كان ذلك لقاء تفجير المسرح بكل تفاصيله الدقيقة وجزئياته المدهشة وهدم حجارته على رأس من فيه.. وحتى على رأس الجمهور الغفير الذي اعتاد أبدا – مهما يحصل – على ألا يبرح أي مسرحية قط تحصل على خشبة أي مسرح كان إلا في حالتين : الأولى أن تبعث أجداث رموزها الموتى في ختام المسرحية ويتقدمون لتحيتهم وهم يبتسمون وبالتالي تصير المشاهدة آنذاك جدا مملة فبديهي أن يفقد عشاق الإثارة تسليتهم في متابعة الأشياء الحزينة وهي تبتسم .. الحالة الثانية أن تسدل الستارة البيضاء لتغطي وجوههم جميعا ولمزيد من التحري يحرص الجمهور بنفسه على تعقب ذيل المسرحية إلى منتهاه ويمشي أفواجا خلف جنائزهم جميعا وهكذا يطمئن إلى فراغ المسرح وخلوه من أي أحد له علاقة بتلك المسرحية مازال صامدا على أخشابها .. وعليه ووفقا لأحداث المسرحية المذكورة ومادام أحد لم يبتسم في الختام ومادام أحد أيضا لم يمت بعد فالستارة البيضاء في هذه الحال لم تسدل .. وحتى يأزف ميعاد إسدالها فإنه – وهذا ما ليس فيه خلاف – إعلان صريح على أن المتعة لم تطو بعد – فثمة يوجد حتما ذيل منظور وسيكون مدهشا مع كل التأكيد .. بعد مرور حزمة لا بأس بها من الشهور أرجعت العجوز ضحيتها نائما إلى المشهد المجروح الذي كان يئن من كسر ألم به من الداخل.. والجمهور الصبور رغم الشهور المديدة كانت عاطفته تجاه استئناف أحداث القصة ما تزال في توهجها وكما كانت عليه في ربيعها الأول.. ولعل هذه المشاعر الصادقة التي يبديها المفتونون بتقصي نهايات المصائب لعلها هي بذاتها ما يثبتهم على مقاعدهم كل ذلك الوقت ويزيل عنهم الضجر ويلهمهم الصبر والسلوان فكما يقال : “فإن المصيبة تظل أمتع ما يمكن مشاهدته”. بعد طول صمت وترقب تسلقت المسرح شتيمة كانت تمشي على خشبته دون استحياء .. فرت تلك الشتيمة من المقاعد الرديئة للجمهور الصامد الذي كاد الملل يفتك برأسه ..وحين لم يستنكر تلك الرذيلة أحد الأبطال المنتصبين على المنصة تقافزت الهتافات الساخطة من كل صوب واتجاه.. على وقع الجلبة والشتائم استيقظ أخيرا من كان قديما يلعب دور الأب وأبصر فيمن حوله بنظرات استنكار ..حاول العودة لتمثيل الدور المناط به لكنه للأسف لم يتعرف على هوية أحد ممن حوله ..حاول بصعوبة استذكار كلمات النص المسرحي وطلب من الذين كانوا يلعبوا دور الأبناء أن يذكروه بأسمائهم وأعمارهم وأي زاوية تحديدا يفترض به أن يقف.. لكنه ولسوء الحظ وقبل أن ينبس أحدهم بحرف ليبصره بأهمية الدور الذي يلعبه في دعامة المسرح أو حتى يريه ضخامة التصدع الذي خلفه غيابه نطت العجوز مجددا على خشبة المسرح كي تغيبه عددا غير معلوم من الشهور ثم أعادته وقد طمست ذاكرته بشكل كلي وهكذا دواليك. في إحدى المرات أخذته البغيضة إلى مكان غامض ثم لم تعده هذه المرة إلا بعد مرور حقبة جمة من السنين وهكذا أعادته وهو نائم كعادتها في كل مرة .. لكنها عندما أعادته في المرة الأخيرة تلك .. لم يستيقظ بعدها أبدا.. لم يجد المخرج الذي كان يذرع كلمات النص طولا وعرضا مناصا من مأزقه .. فالستار في هذه الحال لن ترخى .. لابد عليه أن يهتدي إلى فكرة عبقرية يلتف بها على السيناريو المعاق الذي زاغ عن مساره بشكل مأساوي .. كان يدخن على وجه كارثي .. فمن أين له بنهاية سعيدة تمحو كآبة أبطال مسرحيته الذين كانوا يتبرمون من عبثية المسرح لكل من هب ودب وانحراف السيناريو السعيد إلى شيء آخر يشبه التراجيديا المرة والواقع الحزين..
