الليل والنجوى
محمد المساح
إذا طاب الليل وأستوى خرج من مكمنه وهدأ الضجيج وتلاشت أصداؤه وهمدت وبدأ الصمت في الكلام.
تأنس نفسه لذلك النديم فينادمه صمتا ناطقا تحس النفس بدبيبه وهو يسري في المعارج.. يؤلمه الضوء ويحزنه تساقط الفراشات بأجنحتها الملونة وعفويتها وهي تموت باستسلام غريب تقابل المصير المحتوم كأنها إنبعاث متجدد ودائم لأمثولة بشرية كانت في تلك الأزمان القديمة تقدم نفسها أضحية للمعبود وتزكي روحها تقدمه لعدالة القضية ونزاهتها..
يقف على ضفة الليل تغوص العينان في بحر يصطخب بالغدرة والعتمة ينجذب بقوة ساحرة خفية لا ترى لكنها تناديه يسمع وشيش الصوت واضحا فيتقدم مفتونا نحو بحر الليل عريانا فالليل ثوب العريان.
يغوص في لجة الليل المتماوجة بالحلكة تراه “البومة” في عمق الغدرة يصبح له دليلا في دروب الليل.. تصحبه “الهميمة” ولا تهيم عيناها تخترق حجب الليل وسدف الظلام وهو يمد القدم ولا يرى محط القدم الأخرى.. ويقول لنفسه الليل للضبحان والفقير ستره.
فيه يتقاسمان النجوى ويقتسمان اللقمة.. يعبر الليل عالمه الأثير ويجتاز أودية ونجود لا يقترب أبدا من نقاط الأضواء البعيدة التي تبدو له على شطآن الليل سفينته تبحر في لجة الليل تتهادى بنفسها ولا تحتاج إلى قبطان أو فنار..
وهو لا يرحل قطعا في ليل المدن يرحل في ليل الأمكنة الساكنة في الخلاء حيث يبني الصمت محاريبه ويشد إليه مجاذيب الليل وصعاليك الدروب تتحرك تلك الأمكنة من أماكنها وتطير بلا أجنحة تجوش الفضاء الواسع في أجواء كثيفة الغدرة والظلام.. تصل إلى نقطة يتجمع فيها الهاربون والمشردون بلا مأوى يسكبون همومهم في بحر الليل يتطامنون معا وينشدون أغانيهم المفضلة بحوار صامت ناطق.. تصل معانيه بالذبذبات فتصفو أرواحهم يتخففون وبالتدريج من أثقال الجسم وأعبائه.. يطيرون محلقين في الأجواء يعزفون إيقاعا خفيا يصل إلى القلوب فتحن المواجيد إلى بعضها.. تتصل مفردات اللغة إلى حروفها السارية في بحر الليل حرة فتؤلف من جمعها معنى..
يفرح له عابرو الدروب الليلية.. يبتهلون في الصمت المهيب والليل الكثيف الغدرة..الليل سترة للضباحى والمتعبين يغوصون ويغيبون لا يعودون إلى نقطة البداية أبدا.. أبدا.