” أنسي الحاج”: ما زال يعدو..!
د. صادق القاضي
كشيطان متمرد انبثق من جبهة إله عجوز في معبد متهالك.. انفلت “أنسي الحاج” في الثقافة العربية ليدمر ويهدم ويجن ويرفض.. يلعن كل شيء ويثور على كل شيء: الشعر والشاعر والقارئ والناقد والشكل والمضمون الشعري.. والثقافة العدمية التي أنتجت كل هذا الركام..
لوحدها تكفي مقدمته لديوانه الأول (لن) “1960م” لجعله رقما مهما في تاريخ الشعر والنقد العربي المعاصر باعتباره(صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة بالعربية ديوان(لن)هو الكتاب الأول المعرف نفسه بقصيدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحديدا والمتبني لهذا النوع تبنيا مطلقا..).
كانت خطابا موجها للنخبة الشعرية والنقدية العربية أشبه بالرسالة الشهيرة لمارتن لوثر الموجهة للكنيسة الكاثوليكية من حيث الاستفزاز والاحتجاج والاعتراض ورفض السلطة واجتراح الثوابت التي صارت مقدسة.
لكن أنسي الحاج لم يكن قديسا لاهوتيا مثل لوثر الذي ثار على الكنيسة ليؤسس كنيسة أخرى ولم يكرر تجربة الثورات العربية التي كعادتها تثور على المستبد لا على الاستبداد على القوالب لا على القولبة.
في ظل السلطة الكلاسيكية لم يجرؤ كاتب قصيدة ( النظم الطليق) المنشورة في جريدة العراق عام 1921م على إرفاق اسمه الحقيقي بقصيدته التي هي بالمناسبة أقدم ما نعرفه من قصائد التفعيلة لإدراكه سلفا بخطورة ردود أفعال السلطة والذائقة الكلاسيكية إزاء بدعته حسب تعليل “نازك الملائكة” التي نعرفها جميعا ولا نعرف من هو ذلك البطل المجهول الذي رمز لنفسه بـالحرفين(ب. ن) على بواكير الشعر العربي الحر!
من سخرية القدر أن الشعر الحر وبعد أن انتزع بصعوبة بالغة شرعيته الشعرية وفرض نفسه على النظرية والممارسة الشعرية العربية صار له بدوره وصاته وسلطته الأكثر تزمتا من سابقاتها.!
رفضت “نازك الملائكة” حتى مجرد كتابة كلمة(شعر)على غلاف ديوان(حزن في ضوء القمر) للماغوط لأنه حسب رأيها نثر لا علاقة له بالشعر ولاحقا أضاف الناقد ” عبد العزيز نبوي”:(.. لن يجعله سيف الحداثة شعرا بحال.)!
أرأيتم¿! هكذا يصبح للثورة والحداثة سلطة وشرعية وأوصياء وسيوف وجلادون..!
على هذا المحك تبرز عظمة ثورة “أنسي الحاج” وزملائه لأنهم ثاروا على السلطة وعلى فكرة أن يكون للثورة سلطة وعلى فكرة الشرعية نفسها.. الثائر الكبير لا يهرب من القوالب الجاهزة ليجهز قوالب أخرى.
(أول الواجبات التدمير.. التخريب حيوي ومقدس): يقول رافضا الاجترار البليد أو الترميم الشكلي أو الترقيع.. لا أقل من أسس جديدة لبناء مختلف. بعيدا عن الثبات والتداول السلبي للثورة والسلطة والشرعية..
عاش طويلا(1937: 2014م) يجابه كل القيود وبلا هوادة وها قد رحل لكن بعد أن دمر معبد المقدسات السلطوية والثورية التراثية والمستحدثة وسلك طرقا غير مطروقة وعبدها لحداثة لا يمكن الحديث عنها دون المرور باسمه المحفور عميقا في قلب وذاكرة التحولات المستمرة التي لم تبدأ بقصيدة النثر و(لن) تتوقف عندها هذا الرجل لا يعرف التوقف والحدود والقناعة والجمود.. أتصوره الآن يثور على تابوته ويطالب بتغيير أكفانه التي باتت بالية.!