ذهن مسكون بهموم المجتمع
د. صبري مسلم حمادي
(1)
محمد الشرفي أحد أهم رواد المسرح في اليمن وهو شاعر ومسرحي ودبلوماسي له ذهن مجدد وطاقة فنية عالية. شغلته المرأة عامة والمرأة اليمنية خاصة وكان يدعو إلى تعليم المرأة وإلى رفع مستواها الثقافي والاجتماعي وقد يصطدم أحيانا مع العرف السائد الذي ربما يكون متشددا ويطالب بأكثر بشأن حجاب المرأة فيغضب شيوخ المساجد ويكون مادة في خطب الجوامع. وقد فقد وظيفته أكثر من مرة بسبب هذا التضاد بينه وبين السلطة وما تتطلبه من كتابات توفيقية لا تتعارض مع استمرارها. ومسرحيته التحدي تصب في آرائه بشأن تعليم المرأة وإذا كانت لم تمثل على خشبة المسرح فلأن الكادر المسرحي اليمني غائب عن الساحة المسرحية تماما وهو أمر مؤسف لأن تأثير المسرح مجرب في تثقيف الشعوب منذ المسرح الإغريقي حتى اليوم.
منذ السطور الأولى لنص مسرحية التحدي نلمس هذا التضاد الفني بين ما يتطلبه الحوار الذاتي (المونولوج) والحوار الخارجي (الدايولوج) من أجواء مسرحية خاصة موصولة بوظائف الحوار وهذه الوظائف تنسحب على نمطي الحوار بيد أن الحوار الذاتي يحتاج إلى عناية أدق ذلك لأنه يعتمد على شخصية واحدة تقف على خشبة المسرح وتلقي حوارها تماما كما يلقي الشاعر قصيدة لذلك فإن أقصى الاهتمام بمثل هذا الحوار يمكن أن ينقذ المتلقي من الملل ولاسيما إذا ما بدأ به استهلال النص المسرحي. إلا أن الكاتب يحاول أن ينفذ إلى جوهر الصراع المحتدم في أعماق بطلة المسرحية عبر هذا (المونولوج) الذي استهل به مسرحيته:
«جميلة: ليته ينشغل عني ليتني لا أراه أي محنة وقعت فيها¿ أين أنت يا أبي¿ لماذا وضعتني في هذا المنزل وسافرت¿ ألا تدري من أصبح عمي أخوك¿ تعال وانظر أصبحت في ظله كالعصفورة في قبضة طفل شقي يعذبني بكلامه الجارح وأوامره غير المعقولة يطلب مني ما لا أستطيع الموافقة عليه أن أحتجب وألبس السواد أو أقطع دراستي الجامعية وألزم المنزل إنه يحمل لي كل يوم رأيا ونصيحة ضد أن أتعلم وضد ضرورة التعلم للمرأة ويؤلب ضدي كل نساء الأهل ويدفعهن لمشاغبتي وتوجيه أقسى اللوم والتقريع إلي. توسلت بالجميع لإقناعه بالعدول عن آرائه المجحفة بحياتي ومستقبلي إلا إنه مصر على ممارسة ضغوطه وتهديداته حتى أنفذ له ما يريد (ثم تمثل حركاته وصوته)» ئئفنحس بأن هذا الحوار الذاتي يعوض عن سرد طويل يلجأ إليه كاتب الرواية أو القصة في حالات مماثلة في الفن القصصي ولكن محنة المسرحي إنه ينبغي أن يوصل كل الجزئيات الضرورية لتأصيل الحدث والشخصيات عبر منفذ الحوار بنمطيه (الخارجي والذاتي) وسرعان ما ينتقل محمد الشرفي إلى الحوار الخارجي إثر هذا (المونولوج) الذي يبدو طويلا نسبيا ولكنه ضروري.
ومنذ المشهد المسرحي الأول ¿ لم يقسم الكاتب مسرحية التحدي إلى مشاهد ¿ فإنه يصعد الحدث الرئيس في المسرحية إلى أقصى مداه إذ يفضي الحوار الملغوم بين جميلة وعمها (أبو جميل) إلى أن يضرب العم ابنة أخيه بزجاجة مكسورة ويؤدي هذا الموقف إلى حدوث جرح بليغ وتشوه في نصف وجهها الأيمن «تعود الأضواء تدريجيا نجد جميلة وحدها في هيئة غير طبيعية وغرفتها في حالة فوضى آثار تشوه وجرح في نصف وجهها الأيمن تنتقل من هناك إلى هناك أو تقف فجأة بدون شعور وتارة تحاول أن تتكلم ولا تقول شيئا أو تغرق في صمت مطبق تلبس السواد وتغطي رأسها ونصف وجهها بطرحة (مقرمة) سوداء تتجه إلى أحذيتها تحتذي واحدة ثم تخلعها فجأة بأن ترميها من قدميها إلى إحدى الزوايا بتأفف وعدم رضى تتجه إلى مرآتها وتتأمل في وجهها قليلا ثم تقلبها على ظهرها صارخة بقرف: لم أعد أحتاجكö أبتعدي عني أو انكسري إلى الأبد ثم تتجه إلى احد الرفوف تأخذ بعض الدفاتر والأقلام تنشرها على الأرض وتأخذ كتابا تقرأ فيه وتتمتم بصوت مسموع: حب وغزل وشعر وأنتö يا كل كتب الحب والغزل والشعر والفن والأدب لا قيمة لكö ترميها تقف محتارة تحرك عينيها هنا وهناك تهجم على أواني الزهور تركلها بقدميها بهستيريا ثم تتجه إلى النوافذ».
ومن الواضح إن هذا المشهد يتطلب مزيدا من الحوار الذاتي المعبر عن طبيعة هذه الشخصية ومن وحي ظرفها القاهر إذ تنمو الشخصية باتجاه العقدة (وهي هنا العقدة المسرحية ويمكن أن تكون العقدة النفسية في الوقت ذاته) وقد تكونت بفعل تأثير العاهة في وجه البطلة. ويظل (المونولوج) مهما بل ضروريائكي يعبر عن تأثير العاهة وتوغلها إلى أعماق الفتاة وكان لا بد من الإشارة إلى دور الزمن ومروره في غضون هذا المونولوج «جميلة: (وحدها) وتمر الأيام والشهور وثلاث سنين من عمري وراء غرفتي أسامر الأشباح والظلام وأطياف الأحلام الضائعة قانطة يائسة.