الملف الاقتصادي.. أولويات المرحلة القادمة
د. يحيى بن يحيى المتوكل
اعتدت منذ أن كنت على مقاعد الحكومة على عدم جدية الدولة بصورة عامة في اتخاذ إجراءات حقيقية وذات أفق وطابع إصلاحي في سبيل إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني ووضعه على مسار النمو الاقتصادي المستدام. واعتدت بعد خروجي من الحكومة وبشكل أكبر على عدم سماع الحكومة لأي نصائح أو آراء تطرح بشأن الوضع الاقتصادي واختلالاته والذي يزداد سوءا يوما بعد يوم خاصة وحكومة الوفاق قد اتبعت المثل القائل “أذن من طين وأذن من عجين”. ولكن ما استفزني مؤخرا هو دعوة كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحثهما الحكومة اليمنية على مزيد من الإصلاحات الاقتصادية. ورغم أن الدعوة للإصلاحات الاقتصادية حقيقية وواقعية وأكثر من ضرورية إلا أن موقف المؤسستين الدوليتين قد أصبح ومنذ عدد من السنوات يميل إلى أن يكون سياسيا أكثر منه اقتصاديا من خلال التغاضي عن أخطاء فادحة تستمر عليها الحكومة اليمنية. وقد اكتفت المؤسستان بالتنبيه إلى خطورة الأوضاع دون أن تقف موقف الطبيب الحازم الذي يلزم مريضه باستخدام العلاج وإن كان مرا لتفادي تطور الداء واستفحاله. وبالتالي فإن عدم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية حاليا -والمفترضة منذ سنوات طويلة- لاعتبارات سياسية والتحجج بعدم توفر الظروف المواتية والتي في مجملها كانت وما زالت ترتبط بالمماحكات بين الأحزاب السياسية هذا التأخير سيضاعف من صعوبة وأعباء تنفيذ نفس الإصلاحات لاحقا وهو ما أوصلنا إلى الحالة الاقتصادية المزرية والتي كان بالإمكان تخفيف المعاناة وتجاوز اختلالات عديدة ومنها عجز الموازنة الذي يتواصل عند مستويات غير مأمونة وسأتناولها بتفصيل أكثر في هذه المقالة.
وقد يستغرب البعض كلامي هذا وبالذات الذين يعتقدون أن المؤسستين الدوليتين تفرضان دائما برامجهما على الدول التي تتعامل معهما بل وتتحكمان في سياسات تلك الدول وتوجهانها. ففي التصريحات المنسوبة للمؤسستين سواء بعد اجتماع واشنطن الأخير أو الفردية لمسؤولين في المؤسستين يتبين عدم دقة ما خرجت به بغض النظر عن الأسباب والمبررات للتصريحات. فقد أشارت التصريحات إلى ” النجاحات المحققة” أو “التعافي الاقتصادي” أو “التنويه بالخطوات الهامة التي اتخذتها الحكومة اليمنية لمعالجة عجز الموازنة والازدواج الوظيفي” وهي ذات العبارة التي تتكرر منذ أكثر من عشر سنوات دون تغيير ملموس على أرض الواقع. بل والأغرب أن يصرح أحد مسؤولي صندوق النقد الدولي “…أن اليمن تبنى سياسات مالية جيدة منذ عام 2011م بدعم من الجهات المانحة مما أدى إلى انتعاش اقتصادي..” فضلا عن غيرها من تصريحات ومؤشرات اقتصادية مسيسة أكثر من اللازم تضلل وتضر ولا تدفع نحو تبني إجراءات إصلاحية هي في متناول الحكومة حتى في الوضع الحالي غير المستقر.
وقبل الدخول في تلك التفاصيل فإني استغرب أيضا غياب وعدم اهتمام الاقتصاديين في اليمن بما يجري حولهم وبالوضع الاقتصادي والسياسات الاقتصادية التي باتت لا تحتاج إلى خبير ليحدد اختلالاتها. وقد يعود ذلك الأمر إلى التواطؤ السياسي والصراع الحزبي الذي كان له دور رئيسي في إقصاء النشاط المؤسسي لجمعية الاقتصاديين ابتداء ودفنها فور ولادتها منذ أكثر من عشرين سنة. ولم تستطع الجمعية منذ ذلك الزمن أن تلتقط أنفاسها وتعيد الحياة إلى نشاط شريحة هامة من الاقتصاديين الذين كان يمكن أن يمنحها دورا أكبر وتأثيرا على السياسات الاقتصادية المعيبة. ويتزامن هذا الغياب مع محدودية مراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالقضايا الاقتصادية وطبيعة نشاطها المحدود والموسمي. ومع ذلك لا أعفي المتخصصين وهم كثر من أن يكون لهم تواجد وتأثير حقيقي سواء في الإطار المهني أو الحيز الحزبي وتجاوز المساهمات السطحية والمتكررة والتي في أحسن الأحوال لا تعكس عمقا ولا تنم عن تطوير في المعرفة باستثناء قلة محدودة.
ورغم أني في عديد من الكتابات والتحليلات الاقتصادية أكرر ما بات معروفا بالضرورة أن الاقتصاد اليمني يحتاج إلى تحديد المقومات الأساسية والعناصر التي يمكن البناء عليها في إطار خطة طويلة الأمد تمكنه من الاعتماد عليها لتحقيق نمو اقتصادي وتنمية متوازنة وهو بعكس التصريحات السياسية أو الأماني التي تكتفي بذر الرماد على العيون وتعدد الثروات والإمكانيات الكبيرة في البلاد دون أن تقدم حقائق أو أدلة مادية عليها فإن بعض الوثائق الجادة للحكومة في السنوات الأخيرة استشرفت المستقبل من خلال حصر بعض القطاعات التي يمكن أن تكون واعدة وتساهم في تنويع الاقتصاد الوطني ودفعه بعيدا عن الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على النشاط الاستخراجي. ويت