عابر كأنه الحب

خالد الحيمي

خالد الحيمي –

(1)
يجلسان إلى البحر يفضلان أن يوليا البحر ظهريهما ويحلمان معا:
– البحر يتجدد باستمرار وكأنه ولد بالأمس فقط.
– البحر كالمرأة .. مليء بالأسرار .
– ربما ..
يدرك تفوقها عليه فيستدرك:
– ولكنه ليس كذلك..!
يرتفع موج حاجبيها ويغوصان في ظلال ابتسامة باهته .
(2)
تسرح بعيدا تتأمل الفضاء الواسع. يبقى قريبا يتأمل شفتيها اللوزيتين وصدرها الناهد يداهمه هاجسه السيئ يرغب في تناول قلمه ومهر توقيعه عند منطقة التقاء النهدين تماما. تلتفت إليه فيرتعش كلص ضبط متلبسا ويتظاهر بالتلويح لعابر لا يعرفه.
(3)
– لنتمشى قليلا ..
قالت .. وتشابكت الأصابع وسارا متلاصقين. كانت تود أن يفهمها أكثر. وكان يرغب في أن تسلمه مقاليد قلبها دون عناء..
– أحب البحر لأنه يعلمني الصمت والتأمل !
– أحبه لأنه يلتهم أي شيء في أيö وقت يريد !!
أدرك مدى تهوره فدارى الأمر بابتسامة عريضة:
– أشعر بالجوع .. هذا كل شيء!
وسمع ضحكتها ترن في الآفاق ورأى البحر يبتسم ثم يغض الطرف بلا مبالاة.
(4)
قال وهو يزدرد آخر لقمة من الوجبة السريعة :
– الشعور بالشبع يجعلني أفكر أفضل.
ابتسمت هامسة :
– ولكن الفلاسفة والمفكرين لم يكونوا يشعرون بالشبع عندما أنتجوا هذا الكم الهائل من الفكر والمعرفة .
– نعم .. ولكني لست فيلسوفا.
– بإمكانك أن تصير كذلك إن أردت .
– لا أريد ..العالم لم يعد يريد المزيد من الفلاسفة .
همت بالجواب لكنها تراجعت وعلى شفتيها كلمات سجينة.
ولأول مرة شعر بالتفوق عليها.
(5)
سارا على الرمال الناعمة يداعب الموج أقدامهما العارية.. قال تتلبسه روح أخرى لا يعرفها :
– ثمة شيء- خفي ربما- يتحكم بنا .. بمشاعرنا يجعلنا نحب أو نكره. أحيانا أجلس أمام البحر لساعات ولا أشعر بأية عاطفة تجاهه. وأحيانا أشعر بكون من العواطف الدافقة وبرغبة عارمة في التعبير.
نظرات الفضول والدهشة اللتان أطلتا من عينيها جعلته يواصل متحمسا :
– خذي- مثلا- هذه اللحظة إنني أشعر بسعادة كبيرة لم أشعر بها من قبل, وأجزم أن وجودك معي في هذا المكان بالذات .. هو السبب.
وافتر ثغرها عن ابتسامة خلابة جعلته يسكر بنشوة لا حدود لها !
(6)
– هنا- على هذه الصخرة- كان يطيب لي الجلوس في صغري.
قالت وأخذت بيده وتسلقا الصخرة معا. قال محاولا جرها للبوح أكثر :
– إنه مكان جميل .. ترى بماذا كنت تفكرين وأنت تجلسين هنا¿!
– أحيانا لا شيء .. وأحيانا كنت أفكر في همومي الصغيرة وأحيانا كنت ألقي على البحر أسئلتي الحائرة .
– وحتما كانت تأتيك الأجوبة الصحيحة ¿
– ليس تماما ..
– ماذا تقصدين بـ”ليس تماما”¿
– قد لا تصدق أن كثيرا من أسئلتي الحائرة كنت أجد لها أجوبة هنا .. لعل البحر كان يهمس بها لي !
وضحكا بلا تكلف “ضحك طفلين معا” .
(7)
اتخذا مكانين على الصخرة والتقت العيون عفويا قال شاردا:
– عيناك رائعتان!!
ارتعشت أهدابها واحمر خداها. أدركت عفوية اللحظة فاستحسنت الأمر برمته لكنها التفتت مواربة وجهها وهمست مغيرة دفة الحديث:
– يقولون إن هناك أسرارا في البحر لم تكتشف بعد ¿
– هذا ما يقولونه .
– وأنت ما هو رأيك ¿!
– ما يزال الإنسان يجهل الكثير عن نفسه, ومهما بلغ به العلم لا يستطيع الإلمام بكنه كل شيء من حوله.
– يستطيع إن أولاها الجهد الكافي.
– أنا- مثلا- لا أرغب في ذلك يكفيني ما أتعلمه كل يوم من الحياة مع شظف العيش.
– أنت على حق ولكن فيما كنا نتحدث من قبل ¿!
(8)
– لم يتغير رأيي.
– فيم ..¿!
– عيناك رائعتان!!
öالتقت العيون وترجمت الحواس المتوقدة لغة عاطفة تشب وتضطرم في الجوانح معلنة ميلاد قصة تتكرر كل يوم لكن أحدا لا يستطيع أن يجزم بأنها قد بليت ..
– ليست عيناك وحدهما رائعتين بل كل شيء.. كل شيء فيك رائع!
لطالما كانت جريئة تعرف ماذا تريد وكيف تتصرف التصرف المناسب في الوقت المناسب¿ لكنها الآن ذاهلة مشتتة لا تعرف ما الذي عليها فعله ¿!
صوت في أعماقها يناديها أن ابتعدي. صوت آخر مبهم يدعوها للبقاء يسحرها بلحظة شاردة تشعر فيها بكل أنوثتها .. لكنها لن تكون سهلة أبدا . .
أنظر . . أنظر
همست بصوت متحشرج لم يسمعه وتظاهرت بالنظر إلى طفلة كانت تجاهد في الوقوف والموج الواهن وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة عند قدميها يسحب الرمال من تحتهما فتسقط مرة أخرى ..
(9)

قد يعجبك ايضا