استنزاف الثورات..!
أحمد الشرعبي
أحمد الشرعبي –
الآن فقط يمكن رؤية المساحات المغـيـبة التي لم نكن نحسن رؤيتها في أتون الحماس الثوري المعقود على شرفات الربيع وزخات الأشواق المتواترة للتغيير وإمكانات الانتصار على عبثية الحياة القسرية ذات الأنماط المتناسخة والمذاق الواحد!
كم كنا سذجا وثورات الربيع تحقن قدراتنا العقلية وتسوقنا فرادى وجماعات نحو الثقب الضيق لتحيل اكسير الجموح إلى (ديزبام أو (SDتتموضع في نطاقه المنغلق مشاعر وأحاسيس ومواقف الإنسان مما حوله ومن حوله.
هل شفينا من بله الاندفاعات العاطفية التي يتقن الإنسان برمجتها في حدود رغباته السياسية والثقافية وانحيازاته الدينية والاجتماعية أم أن دوافع ونزعات النفس الأمارة بالسوء ما تبرح برمجياتها وما تزال نفسها مصدر تشكل وتشكيل الصورة المنتقاه ودواعي الموقف المسبق.
صحيح أن مجتمعات دول ما يعرف بالربيع انقسمت على نفسها بين مؤيد ومعارض (مع وضد) وتلك مسألة طبيعة لا تخص الثورات قدر شيوعها في معظم أحوال البشر وموجهاتهم الذاتية تجاه قضايا الشأن العام غير أن ثورات القرن الحادي والعشرين حملت زبدا رابيا ومشاعية أخلاقية أقرب إلى الكوارث منها إلى الثورات..
ولئن كان هذا قد حدث تحت تأثير الحماس وتصاعد وتيرة التطلعات المشروعة لتحريك المياه الراكدة وإحداث التغيير إلى الأفضل بعدما سدت مسالكه الواعية فلماذا آثرنا التغاضي عن أدوات التدمير باسم التغيير ولماذا لم نقل او ننقل الحقائق التي تكشف أمرها لاحقا قبل أن يبلى ثوبها ويطال العبث مسرح الجريمة!! وأية جريمة أشد فظاعة منسلق الثورات وسلخها..¿ وهل كان هذا السلوك نتاج الديزبام (إلا يحائي) أم أن الطلائع المتنورة ومتصدري الاحتجاجات لم يكونوا يروا من التغيير كعملية فكرية وفلسفية وتربوية ولا من الثورة كتحول جذري شامل لا يقف على الحياد من أهدافه الكلية ومنطلقاته القيمية غير كرسي الحاكم وجسده المسجى على سجادة الخليفة المغدور أو خلف قضبان عزيز قوم ذل¿
شيء واحد يمكنه تقديم مبرر معقول يخفف من مشاعر التحسر التي تسحبنا إليها مرويات الاستئثار بثورات الربيع ووقائع الفساد القيمي المتحلل حرمتها والمنتحل صوتها وصورتها..
إذ لولا أننا وجدنا القوى التقليدية تخرج على الناس في أهاب واحد ورأينا القومي مؤذنا والاشتراكي إماما وجماعة الإخوان لصيقهما ما تمكن هؤلاء من الانحراف بالثورة ولا إحالتها إلى قطعة اسفنج تمتص تراكمات الاستبداد القديم وتعمل تقناتها السياسية لتفويج شعارات الحرية والديمقراطية والرفاهية كمستحضرات تجميل نعالج بها تجاعيد الماضي وفرض نماذجه الأسوأ كما لو أننا بصدد معاينة طاقم أسنان يفترض تركيبه بين فكي حاضر الشعوب ومستقبلها..
على أن إطلالتنا النقدية لما كان ربيعا تفقد شرطها الموضوعي مالم تتأسس على أرضية النقد الذاتي أو بالأحرى جلد الذات وما دمنا نعتزم تصويب المسار فإن واجبنا القيام بحملات تطوعية لتطهير البيئة النضالية من الشوائب العالقة بمواقفنا خلال تجربة الاندفاع الأعمى.
وقطعا لسنا بصدد التهوين من كوارث الاستبداد الذي عانته مجتمعاتنا في ظل القذافي ومبارك وصالح وبن علي وأضرابهم في المنطقة العربية ــ لا عندما كانوا على رأس الحكم فحسب ولكن ــ لأن معظم الانحرافات المؤبنة ثورات الربيع لا تعدو الآثار الناجمة عن سياساتهم السابقة فهم ولاريب تفرغوا للإجهاز بقسوة على الناصح العفو الخصم الشريف والمشروع الوطني الجامع بما يعادل حدبهم الساذج وعنايتهم الفائقة بالحدائق الخلفية المعرشة بجيوب التطرف ومقدمي الخدمات المجانية لصالح الدكتاتور والتمديد لسلطته واختلاق مصوغات استمراره على حساب المصالح الوطنية العليا وبطليعتها بناء مؤسسات الحكم الرشيد وحماية الإنسان من العوز والحاجة وتحريره من الإذلال والدونية ولوثات الارتهان وتعزيز فرص المشاركة الشعبية المتنوعة وإتاحة المناخات الديمقراطية الحاضنة تطلعات الانسان في حياة كريمة ومعاش مقبول.
كثيرون ممن يدفعون الآن ضريبة التواطؤ مع مؤشرات الانحراف برسالة التغيير يستعدون لإضرام النيران في كل مكان وإن في مواطن سكناهم وربما جازف بعضهم للخلط بين الثأر والثورة غرار ما تذهب إليه مؤشرات الأحداث في اليمن وتونس وليبيا.. ولقد كان تسويغ هؤلاء خطيئة التغاضي عن الانحرافات السياسية بمزاعم الحفاظ على وحدة النسيج الثوري والخشية من الاختراق ولم يكن في بالهم استفحال الظواهر الصغيرة لتغدوا أكبر حجما وأشد ضررا من ــ ممارسات ــ الأنظمة المخلوعة.. فهل سيتفهم المجتمع هذه الطروحات أم يعدونها تلونا غير ذي معنى.
لقد كان التغيير