
خليل المعلمي –
اجتمع في سجون حجة مختلف أصناف البشر «عالم الدين الوقور والفيلسوف الساخر ورجل السياسة المحنك في مراوغة الحاكم إلى الثائر المتهور فتكونت فيه بيئة ثقافية متكاملة تجاور فيها الأديب الهادئ المتأصل والشاعر القلق الحساس وعاش مدرس الفقه إلى جانب غيره من الأفراد العاديين كل ذلك في بوتقة واحدة تتفاعل فيها الأفكار والآراء وتنصهر المواقف والأهواء وتتحاور الأقلام على بساط من تعدد المذاهب والأفهام.
ومع كل ذلك فقد كان سجن حجة بيئة ثقافية متنوعة بما تعنيه الكلمة من معنى وما صدر عن ذلك من مؤلفات وكتب أبلغ دليل على طبيعة هذه البيئة الثقافية.. ولنذكر جملة من المؤلفات والكتب الضخمة التي ألفت بين جدران هذه السجون منها تحقيق «ديوان عمارة اليمني» في سبعة أجزاء و»اليمن داؤها ودواؤها» في ثلاثة مجلدات و»ملحمة من سجون حجة» و»أدب ونقد من سجون حجة» و»صدى الثورة المصرية في الأدب اليمني» وتحقيق «ديوان الآنسي» من الشعر الحميني.. إلى غير ذلك من الكتب بين معلوم ومجهول وبين موجود منها ومفقود.. إضافة إلى إصدار مجلتين ثقافيتين.
خليل المعلمي
مذكرات القاضي المعلمي
ومن المؤلفات التي تم جمع مادتها في سجن حجة كتاب «مذابح وأغلال.. مذكرات من سجون حجة» للشاعر والثائر القاضي أحمد عبدالرحمن المعلمي الذي سيق إلى السجن عدة مرات.
ويقول عبدالقادر الحصني في تقديمه للكتاب: لقد جمع القاضي المعلمي في تأليفه لهذا الكتاب بين منهجين «تاريخي توثيقي وتاريخ أدبي» فأما التاريخي التوثيقي فلأنه اعتمد التاريخ اليومي لأحداثه وسجل كثيراٍ من الوثائق المتعلقة بتلك الأحداث بحرفيتها متحرياٍ الدقة في هذا الجانب مميزاٍ في نصوص بعض الرسائل والبرقيات بين نصين نص يورده «بما لفظه» ونص يورده «بما معناه» وأما المنهج التاريخي الأدبي لأن الكاتب والمؤلف في مواضع كثيرة من الكتاب انصرف إلى تأملات فكرية وتحليلات اجتماعية ونفسية بل إنه يثير بعض القضايا الدينية والسياسية ويعلق على ما يصله من أخبار من خارج السجن في بعض صفحات هذه المذكرات.
ونجد أن الكتاب قد احتوى على عدد من المواضيع منها أخبار السجن والمساجين خلال الفترة التي تؤرخ لها المذكرات الوثائق المتاحة من رسائل وبرقيات في شؤون السجن والمساجين وكذلك تصوير دقيق للحياة داخل السجن من خلال قصص واقعية للمساجين فيها مرارة الواقع ومتعة القص وعبر الحياة.
ومن المواضيع الموجودة أيضاٍ الدراسات الأدبية الفكرية ذات الطبيعة التحاورية إضافة إلى القصائد الشعرية التي تبوح بآلام السجن فتستعطف وتستدر الرحمة حيناٍ وتتمرد على القيد فتتحدى وتعصف حيناٍ آخر كما نجد فيه من النقد الساخر المباشر وغير المباشر لنظام الحكم الإمامي.
المذكرات ليست كل شيء
يقول الشاعر القاضي أحمد عبدالرحمن المعلمي في تمهيدُ له في هذا الكتاب: إن هذه المذكرات ليست كل شيء عن سجون حجة وإنما هي ما أمكن تدوينه وتهريبه ثم العثور على معظمه.
فاليمن كان مدمراٍ عبر العصور الماضية من خلال حروبه مع الدولة العثمانية وأيضاٍ من خلال التنازع على السلطة محلياٍ والتي استمرت على مدى تاريخه فسادت الأمراض وانتشر الفقر والجهل.
سجن عام 1944م
ويقول المعلمي: أنه حين بلغ سخط الواعين من العلماء والأدباء وبعض الأذكياء من المشايخ ذروته في بدء الاربعينيات تشكلت خلايا سرية عديدة في كثير من مدن اليمن كانت تحت اسمين بمدلول واحد «جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أو «جمعية الإصلاح» وكان قد سبق ذلك نصح متكرر نثراٍ وشعراٍ عن حسن قصد ونية من كثير من العلماء والأدباء والمشايخ وكان من حظ من ينصح أن يقابل بالكراهية وكأنه ارتكب جريمة تستحق العقاب.
ويضيف: كانت الشرارة الأولى أو الانقداح الأول هو سجن 1944م بما فيه من فظاعة وإرهاب فقد استغرب الشعب إذ أن اللامعين من أدبائه وشعرائه وعلمائه ومشائخه وأعيانه يساقون إلى السجون في مراكز كثيرة ومعظمهم يرسلون إلى إب وتعز في الأغلال وبعظهم بلا أغلال.. ثم يرسلون تحت نوع من الإرهاب المستفز والمباغت بالتفتيش والقمع الحاد والعجرفة المتحدية.
كما استعرض المعلمي أسماء من سيقوا إلى سجون حجة وهو أحدهم وقد ظلوا فيها لمدد متفاوتة خرجوا أكثر حماساٍ وأشد بأساٍ ومنهم القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني والشاعر محمد بن علي المطاع والقاضيان محمد واسماعيل علي الأكوع والشيخ محمد أحمد نعمان «الكبير» وغيرهم من الأدباء والعلماء والمشائخ.
نشيد الأحرار
ويقول المعلمي حول النشيد الذي اتخذه الأحرار في سجن حجة: لقد اتخذنا نشيداٍ كنا نردده صباحاٍ ومساءٍ في خلواتنا وأمام حراسنا وكان أجهرنا صوتاٍ وقائد الاوركسترا هو الشيخ حسن الدعيس أما النشيد فهو قصيدة للشاعر العراقي معروف الرصافي الذي يقول:
يا قوم لا تتكلموا
إن الكلام محرمْ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النومْ
ونشيد آخر وهو أبيات آيسة بائسة منها:
حطموا الأقلام هل تحطيمها
يمنع الألسن أن تنطق جهرا¿
اقطعوا الألسن هل تقطيعها
يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا¿
أخمدوا الأنفس هذا جهدكمخمأخ
واريحونا من الذل وشكرا
وأما نشيد الأحرار في العام 1948م خاصة عندما فشلت ثورتهم يقول المعلمي: علينا أن نعرف أي اصرار وأية تضحية وأي تصميم لديهم فقد وضع هذا النشيد السيد الأديب الكبير الشاعر أحمد محمد الشامي:
بالأمة نقسم والجمهور
والعزة والقدر المقدور
وبما في مصحفنا المسطور
أن نطلب لليمن الدستور
سنحارب كي نحيا سعدا
ونضحي بالأرواح فدا
بدماء الأحرار الشهدا
سنحقق لليمن الدستور
الظالم قد تبت يده
وهوى ما كان يشيده
والباطل ذل مؤيده
والحق تمجد والدستور
وشباب الشورى والميثاق
ملأت أصواتهم الآفاق
كل يشدو جذلا مشتاق
تحيا الحرية والدستور
مهازل
ومن الذكريات المنشورة في هذا الكتاب والتي وضع لها المعلمي عنوان «مهازل» حيث يتم محاصرة المساجين في سجن حجة على الرغم من القيود الموجودة في أرجلهم يقول فيها: اضطر أحد المساجين من الذين نقلوا من «الحوش» إلى الدار إلى الاحتقان «بكالسيوم» وحيث لم يكن ثمة من جلسائه في المكان من يحقنطلب أحد المشائخ بأن يأذن لي فأذن وذهبت لذلك فعارض المستلم والمستلم هو الحارس بباب الحجرة التي ينزل في غرفتها السجين وبعد أن أدينا القدر الواجب من الصراخ والسباب والشتم والذم وبعد التدخل من الجهات المختصة.. حصلت المساعدة وكان حقن المريض ولا أدري هل في كل حقنة سنضطر إلى مثل هذا أم أنه سيزول سوء التفاهم وتنتهي المعركة بسلام وللحقيقة فقد كنت «تمرجي» السجن: طبيب يداوي الناس وهو عليل».
توديع
تحت هذا العنوان يقول المعلمي في مذكراته المؤرخة بتاريخ 23 مارس 1953م الموافق 8 رجب 1372هـ لعل أغرب وداع هو توديع السجين للطليق إنه وداع يمتزج فيه الفرح بالألم والسرور بالضجر وما أطلق سجين قط إلا وامتزج هذان النقيضان في قلوب رفاقه ولكن في النفوس الخيرة يتغلب السرور وفي النفوس الشريرة يتغلب الضجر.
كان ذلك في وداع الأديب الشامي حيث حملوه الأحرار رسالة إلى الإمام أحمد جاء فيها:
يا أمير المؤمنين إننا أبناؤكم وليس لنا مبادئ هدامة ولا أغراض سيئة ولئن أخطأنا السبيل فما أخطأنا القصد يعلم الله أن نوايانا خيرة إلى أقصى حدود الخير محبة إلى أقصى حدود الحب.. محبة لأمتنا ولديننا ولتقاليدنا ولكل ما ترغبون به من مفيد لهذا الشعب العزيز علينا وعليم الجدير بأن يرفع من شأنه فهذه مواكب الأمة العربية كما ترونها سائرة في ميدان الرقي بجد ونشاط وهو جزء منها ولجلالتكم لا ترضون بأن يبقى مقعداٍ عاجزاٍ فاقد الوعي والنشاط يتخبط في وحل الجهالة وقيود الذل والفقر إنه شعبكم ومصدر سلطتكم وقوتكم ونحن أبناؤكم فهيا بنا يا أمير المؤمنين لندرس ما نعمله من أجله واحملوا مشعل الهداية بيدكم وأنيروا لنا الطريق واستثمروا مواهبنا في صالحكم وصالحه خير من قتلها في السجون وإبادتها بالآلام لقد قلنا للشامي أن يبلغكم عنا أنا طوع إرادتكم فيما يعود بالخير على هذه الأمة بحسب ما ترشدون إليه وتضعون خططه.. وقلنا له أن يبلغكم عنا أنا نعاهد الله على ذلك..
وقلنا له: قل لأمير المؤمنين خير من أن يجعلنا منجماٍ ضخماٍ لمن يريد تشويه السمعة ويتخذ منا مواد نقده ومواضيع تنديده أن يطلق سراحنا لنسمع أولئك أصواتنا ولنوحد مع جلالتكم هدفنا على أن يكون الإصلاح بالحكمة وأن نسير في طريق واحد سيراٍ حكيماٍ فلكل شعب من الشعوب المتأخرة أمراضه ولكل شعب سيئات ماضية والشعوب التي تحاول الوثوب مرة واحدة ربما تكبو كبوة لا تقوم بعدها لمخالفتها قانون التطور…..
كانت هذه رسالة حملها الشامي إلى الإمام أحمد يوضح فيه الأحرار بأنهم لا يريدون إلا الإصلاح والمضي قدما مثل بقية شعوب العالم إلى التطور والتقدم.
قصة قلم الرصاص
ومن الذكريات الظريفة التي يوردها المعلمي هي قصة قلم الرصاص حيث يقول: كان في السجن عام 1944م من يدخن سجائر من نوع «غولد فليك» فإذا فرغ المدخن ورمى المغلف الفارغ إلى الزبالة أغافله وأغافل الزملاء وأذهب لالتقاطه فأفكه وكان بحوزتي قلم رصاص ثم أذهب إلى الاختلاء في الحمام وأدون ما أريد تدوينه فأصبحت لدي كمية ورغم التستر الشديد اكتشف الأمر وأتلف ما كان قد تم تدوينه إما مباشرة أو طمراٍ في التراب وحدث أن جاء يوم البريد الذي تصل فيه رسائل من ذوينا ويسمح لنا فيه بالرد وتوزع علينا قصاصات للكتابة هنا تبدأ القصة المثيرة:
لقد كنا نغتنم الفرصة لتدوين ما يتأتى لنا من نظم الشعر وبدا للسيد محمد المطاع ان نشترك في قصيدة سرية نرثي بها الإمام يحيى الذي كان لايزال على العرش يصول ويجول في الحكم منذ اربعين عاماٍ وكتبت على القصاصة مطلع المرثاة:
متú قابلتك بقبرك الديدانْ
واستقذرت جثمانك الأكفانْ
وسلمتها السيد محمد المطاع فأضاف إليها بيتاٍ وأعادها إلي وما كدت أفرغ من البيت الثالث حتى داهمنا مدير السجن النقيب علي بن علي الفقيه الأعور وكان حاد الذكاء شرساٍ سيئ الخلق والخلق.. جاء وقعد بجانبي فتوقفت عن الكتابة واضعاٍ الورقة على وجه كتابتها أرضاٍ ووضعت عليها القلم متظاهراٍ أني أفكر فيما أكتب فطلب القصاصة فقلت: هي مشروع رسالة لم يعجبني ما صدرت بها التهمت الورقة فثار غضباٍ وأمر بمصادرة القصاصات كلها من جميع السجناء حتى من كانوا بعيدين عناٍ ولم يسمح باجتماعنا بهم ولم يكتف بهذا بل استدعى بعض الحرس وقال: جروا المعلمي وقيدوه بقيد فأنزلوني إلى حوش مبنى السجن وصكوا قيداٍ واحداٍ ولما فرغوا وهو واقف معهم لم أتزحزح عن الصخرة التي كانت عليها رجلاي عند الصك وقلت: أريد أن تطلعني على أمرُ من الإمام يحيى أو ولي عهده أحمد أنك مخول بقيدي فأمر الحراس بأن يزيدوا لي قيداٍ ثانياٍ فزادوني فبقيت مصراٍ ومطالباٍ وبكل ما أوتيت من صراخ إلى أن بلغت القيود خمساٍ.. ولم يعد في ساقي متسع لقيد سادسة.. وصرت لا استطيع الحركة وتحلق علي أكثر الحراس وخرج الأخوان من المكان الذي كنا فيه ومنهم القاضي عبدالرحمن الارياني والشيخ حسين الدعيس وغيرهم كلهم يراجعون النقيب ويقولون له: أنت رجل عاقل وهذا شاب طائش اطروه مدحاٍ وثناءٍ كما اشبعوني توبيخاٍ وحملت بأيدي الحرس إلى المكان الذي كان يضمني مع الزملاء.
وفي هذه الأثناء طلع علينا النقيب بعنجهية قائلا: يا سيد محمد مطاع أمر مولانا ولي العهد بإنزالك نافع الآن وهذا ليعرف المعلمي ما هي صلاحيتي وكان استعجال المطاع وصرنا في لوثة فكرية إذ لم يمهل ولو حتى للحظات وكان في حوزته بعض أشعاره ومعظمها قصائد ذم وتشهير بولي العهد وعلى أبواب سجن نافع فتش تفتيشاٍ دقيقاٍ وصادروا قصائده وأرسلت إلى ولي العهد أحمد ولهذا أطلق معظم سجناء عام 1944م وبقي هو أكثر من 14 عاماٍ مع اثنين كان الحقد عليهما شديداٍ مثله هما الأستاذ المناضل الشيخ صالح مرشد المقالح والأستاذ قاسم غالب وقد وصلنا في عام 1948م لنلتقي بهم ونعيش في برزخ واحد وزنزانات متجانسة وقد خفف عنهم العذاب ولم يتوقعوا الإعدام كما نتوقع إننا معرضون لذلك ومهددون به صباحاٍ ومساء.
بعد إنزال المطاع عاد النقيب علي إلينا هادئاٍ وبجانبه الشاوش النهدي رئيس الحرس النظامي راجياٍ تخفيف القيود عني.. ولقد قال الشاوش النهدي: هذا حرام فإن المعلمي لا يستطيع أداء الصلاة فسمح النقيب بإزالة قيد واحد.. ولم يزل به حتى أمر بفك آخر.. وكان النقيب يستجيب بسرعة لمن يراجعه ويخفف من غضبه وحين راجعه القاضي عبدالرحمن الإرياني والشيخ حسن الدعيس أمر بفك ما تبقى فلم يأت عصر ذاك اليوم إلا وأنا بغير قيود.
ولأن المعلمي كان يتضايق من الدخان الموجود في الغرفة التي ينزل فيها مع رفاق كفاحه ودربه تسهلت له الأمور بأن يحصل على غرفة عن طريق صديقه ورفيق دربه القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي تنازل بها له ويقول المعلمي في ذلك: فهدأت فينة من الزمن في خلالها نظمت هذه الغرفة بعض التنظيم وجعلت منها «شبه صيدلية» فجمعت ما يمكن أن يسعف به المريض عندما يصاب أو يشتد ألمه وبقيت أسعف الرفاق والعسكر ولا يخلو يوم لم أحقن فيه أحداٍ بحقنة ما لإلمامي بالطب.
ولقد مضت أسابيع كان لا يمر أسبوع إلا وقد ضربتْ عشر حقن فأكثر وأرحت الكثيرين من الرفاق والعسكر من طلب الحكيم أو مساعديه ولقد كان العسكر يرغبون الاحتقان في المستشفى ولا يريدون الاحتقان إلا لدي سواء النظام أو البرانيين وهكذا بقيت شهوراٍٍ وكان يؤذيني أن يقدم لي أحد شكره لأني كنت أرى الإسعاف واجباٍ ولا سيما في مثل هذا المحيط الذي لا رحمة فيه ولا حنان والأمراض فيه ما أكثرها من الأوساخ وجهل الحرس إلى غير ذلك.
حينما يصل البريد
ومن الذكريات المسجلة لدى القاضي المعلمي أوضاع المساجين عندما يأتي البريد فيقول:
إنه عندما يأتي البريد أو على الأصح عندما يكون يوم البريد لا ترونا إلا في لهفة وتبلبل.. ونحن المساجين آخر من يتناولون رسائلهم لأنها تعرض على النائب ثم تمر على دائرة البريد مرة أخرى ثم تسلم إلى جندي في المقام فيبقيها لديه حتى يمر به أحد حرس القاهرة فيطلبه وإلا تركت حتى تطلب أما النائب فإنه يسارع بمطالعتها مراعاة لشعورنا وتمر أيضاٍ عندما ترسل مفتوحة على المشايخ ولهم إن أرادوا الاطلاع عليها بعد النائب ولهم إن تكاسلوا تسليمها بدون اطلاع اكتفاء باطلاع النائب وقد كان في بدء السجن يؤذينا كثيرا الاطلاع على رسائلنا ولكننا ما برحنا أن ألفنا ذلك وكان يؤذينا أكثر عندما كنا في سجن نافع أخذها منا بعد أن نقرأها ثم لا يسمح لنا بمراجعتها بعد حتى فيما يلزم مراجعته ضرورة..واستمر أخذ الرسائل منا مدة حتى بعد طلوعنا للقاهرة ثم حصل التغاضي تدريجياٍ حتى صار لنا الحق في المنع عنها.
وعندما يتم استلام البريد في الصباح يتم تحرير الجوابات بطريقة سريعة تجعل المساجين لا يتناولون طعام الغداء إلا وقد صارت جاهزة ليتم عرضها على المشايخ ليوقعوا عليها بأنه قد تم مراقبتها ثم ترسل إلى نائب الإمام ليكتب عليها بأنه قد تم مراجعتها ومن ثم يتم ارسالها إلى دائرة البريد بعد أن يتم دفع قيمة الطوابع.
في رثاء علي حمود الآنسي
كان «علي حمود الآنسي» من حراس سجن نافع وكان ذا نفسية وضمير صافُ وعاطفة إنسانية لم يتثقف ولم يتعلم.. وحين جاءوا بالأحرار في الأغلال عام 1944م إلى سجن نافع ولقوا من التعذيب ما لقوا..
يقول المعلمي: كانت الإشاعة ضدهم بأنهم خرجوا عن طاعة الإمام.. والخارج عن طاعة الإمام خارج عن الدين وجدهم متمسكين بالدين وبشعائره ووجدهم يقرأون القرآن وعرف أنهم لايريدون إلا الإصلاح فتحول إلى جانب الأحرار سراٍ وفي الظاهر أنه من حراس السجن الأشداء. وقد عْذب عذاباٍ كبيراٍ عندما انكشف أمره وقد رثي بقصائد عديدة من أحرار السجن الذين يقولون الشعر تحت عنوان «الجندي المجهول».. كان ذلك عقب سجنه وتعذيبه إلى أن وافته منيته بسبب التعذيب في سجن انفرادي في وشحة وذلك بسبب أنه كانت له يد في نجاة المناضل الكبير عبدالسلام عمر.
ونختار الأبيات التالية من مرثاه:
إذا ذكرتك فالإحساس يستعر
والدمع يغلي بأجفاني وينهمر
وكم أحس بآلام تعذبني
وكم تبلبلني الآهات والسهر
كأن ذكراك بارود يصب على
قلبي ولكن قلبي كله شرر
وكأن ذكراك بركان له جسدي
دنيا يدمدم فيها حين ينفجر
عبدالسلام عمر
وعن المناضل عبدالسلام عمر يقول المعلمي: هنا لابد لنا من القول بأن الأستاذ عبدالسلام عمر كان حراٍ غيوراٍ مخلصاٍ عمل في مطبعة «صوت اليمن» حيث كان ينضد حروفها بأصابعه وكان خبيرها الفني إلى أن قامت ثورة 1948م فسار مع من سار برفقة الزعيم الكبير أحمد محمد نعمان عند طلوعه على رأس جمهرة من الأحرار في طريقه من عدن إلى صنعاء وقد ألقي القبض عليهم جميعاٍ وأودعوا سجن ذمار وقد كبلوا بالأغلال والمغالق من قبل المناصرين للإمام أحمد.
ويضيف المعلمي: ولكن الإمام بعد أشهر أطلق النعمان وعفا عنه وحدد إقامته في حجة أما صاحبنا عبدالسلام عمر فقد أودع في سجن حجة وبعد مرور سنتين كان يوجد من يحمل اسمه في سجن الشبكة بتعز وهو سجين غير سياسي فقدم هذا عريضة يسترحم ويرجو إطلاقه فكتب عليها الإمام: «يطلق هذا» ولشهرة عبدالسلام عمر (نافع) سحب جواب الإمام برقياٍ فأطلق وكان في العادة أن من يطلق يذهب إلى نائب الإمام في حجة شاكراٍ ويحول له بعشرة ريالات مصروف طريق ولكن صابحنا بحسه وذكائه شعر أن اطلاقه كان غلطاٍ أو توقع ذلك فخرج لا يلوي على شيء ميمماٍ نحو كحلان وما كاد يصل إلى هنالك متعباٍ لسيره على الأقدام لا سيما بعد سجن طويل ومكوث بالأغلال حتى تم ارسال خمسة من حرس سجن حجة فكان الآنسي منهم حيث قال للحرس الباقين أن هذا الشخص خطير ولابد أن نعيده إلى سجن حجة في نفس اليوم ولما جاء الليل تناوب الآنسي وبقية الحرس على حراسته ولما نام الحرس قام الآنسي بإطلاق سراح عبدالسلام عمر.
وحين اتضح الأمر للحرس المرافقين حملوا الآنسي المسؤولية واتهموه بأنه قد اطلقه مقابل مال فأحكموا وثاق الآنسي ربطاٍ بيديه إلى الوراء وساقوه إلى حجة وأنزل بنافع ولما بلغ الإمام بالأمر لم يرضه بقاؤه بين الأحرار فأمر بنفيه وسجنه بعيداٍ عنهم في الأهنوم أو السنارة حيث بقي فترة ومات بالتعذيب والتجويع رحمه الله رحمة الأبرار.
في رثاء أحمد جمعان
أحمد جمعان هو أحد حرس السجن يقول المعلمي عنه: كان صبياٍ مهلهل الأطمار يائساٍ استغله عمه الشيخ راجي جمعان وجاء به كأحد أفراد الحرس ليبتلع راتبه الشهري كان سنه حين ذاك أربعة عشر عاماٍ نحيل الجسم مصفر البشرة لكأنه يعاني من أمراض عديدة فلمسنا فيه ذكاء متوهجاٍ مع خمول وبؤس وكل دلائل النجابة عليه وكان يقلد الحرس فيما يعملون بحكم وضعه فتقربنا منه ببطء وبدأنا من تحت الصفر في تعليمه حروف الهجاء أولاٍ ثم تدريجنا ووجدنا فيه تفهماٍ وانطلاقاٍ وشيئاٍ فشيئاٍ حتى بلغ به التعليم إلى قراءة كتب الأدب واستظهار قصائد المتنبي وقابل الجميل بالجميل إذ قدم خدماته لنا بتهريب الأقلام والحبر والورق إلينا وكذلك إدخال ما يصل من الصحف سراٍ إلى المتعاطفين معنا في حجة وإخراج مذكراتنا السرية إلى من يحتفظ بها حتى يسهل إرسالها على ذوينا لحفظها وأصبح منا مخلصاٍ وعندما قامت ثورة 62 سبتمبر أنيطت به وظائف يستحقها منها أنه عين مستشاراٍ في السلك السياسي وألحق بسفارتنا في تشيكوسلوفاكيا وقد رثاه الأستاذ الأديب الشاعر إبراهيم الحضراني بقصيدة نورد منها هذه الأبيات:
الرحيل الرحيل آن الأوان
أبقاءَ وقد مضى الخلانْ
الرحيل الرحيل عما قريب
نتلاقى وتنطفي الأشجانْ
كاد قلبي يذوب بين ضلوعي
حين قالوا مضى الفتى «جمعان»
النظيف النظيف والملخص
المخلص والمستنير الإنسان
يا صديقي ستلتقي بأناس
كنت في ساحة الكفاح وكانوا
وصف نافع
وقد عمد القاضي المعلمي إلى وصف سجن نافع فيقول فيه:
إن «نافع» فيما أعتقد بني بهندسة شيطانية وكان يقوم بسفح جبل يسمى «الحسوي» وجزء من «نافع» محفور ببطن الجبل وهو أقرب إلى الشكل المستطيل ومؤلف من دورين علىمدخل واحد شبه مظلم وتقوم غرف السجن في الدور الأول بصفة اصطبلات لها مخارج إلى باحة تدخلها الشمس لسويعات وقت الظهيرة ثم تغيب والدور الثاني لا يقل عنه وصفاٍ.
وأكثر الغرف لا يدخلها النور إلا متسللاٍ وقد يكون معظمها بدون نوافذ ماعدا الباب الذي يسمح للهواء بالدخول وهو يتسع لأكثر من سبعمائة سجين على ضيق شديد.
مما قيل عنه أن الإمام أحمد عندما كان ولياٍ للعهد وتمردت قبيلة «الزرانيق» في حرب دامت طويلاٍ انتصر فيها ولي العهد سيق إليه ما يقرب من سبعمائة وماتوا كلهم في هذا السجن..
ويضيف: في مدخل «نافع» ما يشبه الاصطبل في وسطه صخرة صلبة يؤتى بالسجين دعاٍ إلى جانب هذه الصخرة وعليها تدق القيود على رجلي السجين والقيود أشكال ينبهر لها السجين إذ ترى معلقة على جدران هذا الاصطبل ثم يقذف به إلى الداخل دون تحديد مكان له فيختلط بمن في السجن من مجرمين ومتهمين وأبرياء ومجانين ولا يوجد في الدورين إلا مرحاضان ضيقان يتسابق السجناء إليهما في كل حين.
وعلى الاجمال فالهواء متعفن جداٍ والأوساخ متراكمة والضجيج محتدم بين أناس غير متجانسين في أي شيء ولا تسأل أيضاٍ عن الحشرات والهوام من براغيث وبق وذباب وهكذا نزل الأحرار وهم صفوة الشعب بين هذا الخليط.. وتقوم على السجن في نفس البناء «نوب» متعددة وهي عبارة عن أبراج مراقبة صغيرة على سور السجن للحراسة وكذلك خارج السجن توجد أبراج حراسة أيضاٍ كما توجد على مسافات متفاوتة من المدينة ويوجد في مدخل السجن غرفة لمدير السجن مسموح فيها لدخول الهواء قد يطلب إليها أي سجين للاستجواب أو التهديد والارعاب.
وكان الأحرار في هذا السجن يصفونه بقوله تعالى: «لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون» وإن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود ولا أزيد في الشرح مستكفياٍ بفزع الأخوان وخوفهم عندما أخرجوا منه إلى «القاهرة» و»المنصورة» ذلك الخوف والفزع من العودة إليه.
الصديقان
ومن المؤلفات التي كتب فيها المعلمي مذكراته ونضاله ضد الإمامة كتاب «الصديقان الإرياني والمعلمي على طريق النضال» وهذا الكتاب من الكتب التي سجل فيها القاضي المعلمي سيرته بصحبة صديقه القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني رئيس المجلس الجمهوري الأسبق وملازمتهما لبعضهما أكثر لسنين طويلة في الكفاح والنضال حتى وهما في سجن حجة كما تضمن الكتاب فصلاٍ كاملاٍ عن الرسائل المتبادلة بين القاضي المعلمي ورفيق دربه القاضي الإرياني خاصة بعد الثورة حين تم تعيين القاضي المعلمي سفيراٍ في أديس ابابا وحينما غادر القاضي الإرياني اليمن متوجها إلى دمشق لم تنقطع هذه الرسائل بل ظلت لفترة زمنية طويلة.. ولم تكن تلك الرسائل تحكي أوضاع الطرفين بل كانت تحكي أوضاع وهموم كل اليمنيين ووطنهم.
تراث الأحرار
إن هذه المقتطفات ماهي إلا بعض ما أوردها القاضي المعلمي في مذكراته حول سجون حجة وكما يعترف هو بأن هذه المذكرات ماهي إلا القليل مما تم تدوينه وتهريبه والعثور على بعضه..
ولهذا فمن نافل القول أن تراث أحرار اليمن هو تراث الحق والنور والعلم في مواجهة الظلم والظلام والجهل وهو التراث المؤسس لثورة الـ26 من سبتمبر 1962م فما رسالة النور والوعي التي بثها علماء الأحرار ومفكروهم في روح الشعب إلا الجذر العميق لشجرة روتها دماء الأحرار الطاهرة فاستوى ساقها ورعاها نضالهم الدؤوب فأورقت أغصانها لتتفتح عليها أزهار ثورة سبتمبر المجيدة.