
تحقيق /محمد محمد إبراهيم –
محمد الحيمي:
{ المدرسة كانت منارة علمية لأبناء اليمن جميعاٍ والحركة الطلابية بدأت حماساٍ للمد القومي العربي ثم تطورت إلى الإضراب والعصيان
{ مبنى المدرسة ذو تصميم هندسي عريق لكن الإهمال حوله إلى خراب واستبدل بمبنى آخر
شكلت منارة علم في زمن التخلف وكانت معلماٍ.. هاماٍ ما كان له أن يطمس!!. تلك هي المدرسة الأحمدية في تعز أحد أبرز روافد المقاومة الشعبية والحرس الوطني بعد قيام الثورة اليمنية المباركة ومنارة العلم التي خرجت المئات من الأدباء والجهابذة قبل الثورة.. ففيها عمل الفضول عبد الله عبد الوهاب نعمان مدرساٍ في أربعينيات القرن الماضي فترعرعت في أجوائها بذور القصائد العاطفية والوطنية الخالدة ومنها تخرجت قائمة من الأسماء التي نعرفها في الوسط السياسي والفكري والأدبي والمعرفي والاداري وحيث تلتفت تجدهم أسماء بارزة منهم الدكتور حمود العودي -مفكر ومؤرخ يمني معروف – أحمد الارياني – رئيس الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة السابق -وزيد مطيع دماج – أديب وروائي يمني كبير – ومحمد مرغم – إداري – والأستاذ عبدالرحمن بجاش – أديب وإعلامي قدير رئيس مجلس إدارة مؤسسة الثورة للصحافة والطباعة والنشر – ومحمد الحيمي – رجل اقتصادي إداري ومالي- وشائف الحسيني -إعلامي ومؤلف حصيف- وعبد الحميد الحدي-عضو مجلس الشورى..
وغيرهم من الأسماء التي لا نسطيع الالمام بها واعطاءها حقها والتي تقاطرت من كل منطقة في اليمن وخاضت معترك الحياة فكانت لها بصمات مضيئة في المجتمع اليمني.. وفي مدرسة الأحمدية سطرت الحركة الطلابية اروع ملاحم العمل الثوري.. وإن كان الفعل الثوري الطلابي بدأ في المدرسة العلمية صنعاء إلا أن المدرسة الأحمدية والوحيدة في تعز والمقربة من قصور الإمام أحمد كانت هي الصدى السريع وأولى مؤشرات الحسم في ذهن المجتمع الذي يحيط بالأمام أحمد في تعز ..
بذلك الحضور صارت المدرسة الأحمدية في تعز ابرز الأمكنة التي تتصدر ذاكرة الثورة السبتمبرية 1962م التي نعيش هذا العام يوبيلها الذهبي ومرور خمسين عاماٍ من عمرها.. في هذه التحقيق الصحفي أو المادة الاستقرائية نتوقف هنيهات مع من استطعنا الجلوس معهم من طلاب مدرسة الأحمدية لاستعادة ذكرياتهم عن هذه المدرسة كمكان ومشعل علمي ونبع ثوري لا ينسى.. ومرورا معهم نقف جادين للبحث عن بقايا أطلال للأحمدية ولأمكنة أخرى غادرت واجهة الأرض والخارطة لكنها لن تبرح ذاكرة الثورة ومخيلة الأجيال.. الأحمدية كغيرها من المعالم التي تؤرخ لحقب زمنية متعاقبة غْيرت بعد قيام الثورة اسماٍ وطْمست بعد ذلك معلماٍ بفعل خطأ تاريخي- ليس للثورة المباركة ذنب فيه- ارتكبناه كمجتمع لا يفقه إلا حاضره فقط وكما لو أننا نحاكم أمكنة لمجرد تهمة انتمائها للأسماء السياسية لنكتشف بعد زمنُ طويل إنها ليست سوى ملك للأجيال والتاريخ..
بكل صدق ونكران ذات يقف الوالد والأستاذ محمد الحيمي بتواضع الإنسان الذي لا يحمل من ماضيه سوى كل ما هو مشرق ليس لأنه لا يحب التطرق إلى تفاصيل ما شاب الماضي النضالي من أخطاء بل لأنه يؤمن أن لا إنسان معصوم من الخطأ وإن من يظن إنه لا يخطئ فقد ارتكب الخطأ بعينه الأستاذ محمد الحيمي الذي عاد من العراق في عام 68م بعد حركة 5 نوفمبر بداية فترة الارياني -رحمه الله- عمل في مكتب التخطيط إداريا مخلصاٍ لا يشغله عن عمله شاغل سياسي أو حدث عارض لينتقل بعد ذلك إلى مكتب رئاسة الدولة كموظف فني إداري يتعامل مع كل الناس بنِفِس الأخ والأب والإبن دون أن يسأل أحدا من أين أنت¿ أو من تتبع¿.. بعد ذلك عين نائباٍ لمدير مكتب رئاسة الدولة واستمر فيه إلى ما بعد الفترة الانتقالية أيام رئيس مجلس الرئاسة القاضي عبد الكريم العرشي -رحمه الله – ليشغل منصب نائب وزير المالية من 79- 1989م ثم نائباٍ لوزير الصناعة والتجارة بعد الوحدة اليمنية المباركة ويشغل الآن مستشاراٍ لوزير المالية.. هذا هو واحد من طلاب مدرسة الأحمدية الذي تحدث لي وفي عينيه هالة من القيم الأصيلة تربى عليها لا يستعرض أدواره تنطعاٍ من ذاكرة ملأتها حمى ضجيج الذات.. بل يتحدث عن ذاكرة جمعية عامرة بالقيم وحب الناس وتمجيد كل ما هو انساني وجميل.. ولا يحمل موقفاٍ ضد أحد فاليمن أرضاٍ وإنسانا هي خارطته ولكل شخص حرية الرأي والفكر والاتجاه.. ذهبت إليه لإجراء حديث صحفي طالما شدني إليه إخلاصه لعمله وصمته الذي يتحدث عنه الكثير من زملائه في العمل والدراسة بالمدرسة الأحمدية.. ففاجأني مع أول نقاش ودي يسبق الحوار بقوله : أولاٍ أنا لست مناضلا.. عشت الأحداث وعرفت كل الناس طيبين يحملون قيم التعايش والتسامح ومن كان غير ذلك فعلى نفسه واشتغلت فنياٍ وإدارياٍ لا أؤمن بالمناكفات والأسماء والألقاب التي تطلقونها في الإعلام…) حينها صمتْ وأدركتْ إني أمام شخص عظمته في تواضعه وتقديره لذاته لعله الجندي المجهول الذي يعمل بإخلاص قبل أن ينتظر العائد وواحد من الرجالات الذين يسيرون دفة العمل بصمتُ بليغ وحين بدأت النقاش الودي عن مرحلة خلاف أبناء الصف الجمهوري.. وبعض القيادات السياسية التي تعاقبت على رئاسة البلد قال: كل من مضى ومات الله يرحمه ومن لا زال باقياٍ من فرقاء السياسة رعاهم الله ووفقهم لما فيه خير وسداد اليمن وكلهم وطنيون وأبناء دين وبلد ولغة واحدة ومن نحن حتى نبحث في أخطاء الآخرين خصوصاٍ إذا ما أدركنا أن كل واحد منهم كان يحمل مشروعاٍ وطنياٍ وواجه التحديات والعقبات الكبيرة والمشاكل والمصاعب وبالتالي الأخطاء محتملة وواردة في عمل بني البشر..”.. بعد هذه السياجات القيمية التي وضعها أمام صحفي تحاصره أسئلة جمة اتفقنا على الحديث حول مدرسة الأحمدية..
الحماس الطلابي
الوالد محمد الحيمي يتحدث عن مدرسة الأحمدية وعن دخوله للدراسة فيها حيث يقول: بدأت في مدرسة الأحمدية تعليمي حيث أتذكر إن هذه المدرسة حوت مجموعة من طلاب وشباب متحمسين وكان الحماس في تلك الأيام امتداداٍ لما يجري في مصر وما يعتمل في المنطقة العربية من مدُ قومي بعثه في النفوس المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر خصوصا في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات حين كانوا يسمعون خطاباته الحماسية..
كنت أنا- حينها-أنزل من الحارة وهم من حارة المستشفى (الزملاء والشباب ) ونلتقي مع مجموعة كبيرة من زملاء الفصل الدراسي منهم المرحوم الأستاذ أحمد الإرياني الذي كان رئيس جهاز الرقابة والزميل زيد الغابري كان صحفياٍ قديراٍ والزميل على محسن حميد هو الآن بوزارة الخارجية.. وكانت سمة تلك الأيام الحيوية والتفاؤل رغم الظروف التي كانت تمر بها البلاد.. لكن الشباب يعيشون حماساٍ قومياٍ عربياٍ كبيراٍ واسع النطاق..وأتذكر أن طلاب المدرسة الأحمدية كانوا مقسومين بين ليلي ونهاري طلاب القسم النهاري(الفترة النهارية)يدرسون في النهار وينصرفوا إلى بيوتهم وطلاب القسم الليلي(الفترة الليلة) يدرسون في الليل لأنهم ساكنون في المدرسة وأغلبهم من الأيتام والطلاب الذين يأتون من مناطق خارج تعز وأنا كنت ضمن القسم النهاري.
ويواصل الحيمي استرجاعه لأيام الدراسة في الأحمدية قائلاٍ:وأتذكر أن مدير المدرسة كان-حينها- مدرساٍ فلسطينياٍ اسمه عبدالقادر صوان وعبدالرؤوف نجم الدين -يحملان الجنسية الفلسطينية-ومدرس يمني اسمه محمد حيدر..
وحول سؤاله عن التواصل بين طلاب المدرسة الأحمدية بطْلاب المدرسة العلمية بصنعاء أجاب الحيمي قائلاٍ: لا أتذكر ولا أدري هل كانت لهم اتصالات مع صنعاء مع بداية تكوين حركة الضباط الأحرار ولكن ذلك الاندفاع كان مرافقاٍ لما يحصل في مصر يعرفه الناس عبر المذياع والصحافة التي تصل البلد بعد ذلك بدأت موجة الحماس تتزايد حتى وصلت حد الاضرابات.
وفي رده على سؤال: أين كنت أنت يوم هذه الاضرابات¿ أجاب قائلاٍ: في البداية لم أكن معهم.. ولم أكن منتبه لما يجري.. كل ما في الأمر أني كنت وكثير ننتهز الفرصةونعود إلى البيت.. نكاد نطير فرحاٍ عندما نرى أنه لا توجد دراسة.. فذلك عندنا مجرد فرصة للهروب من المدرسة..وللحقيقة.. كان كثير من الطلاب يتعاملون مع المسألة بلا وعي فليس لديهم -حينها – العمق ولا الرؤية الواضحة والبعد السياسي ذو الصبغة المستقبلية.. ولكن مع تواتر الحماس واستقراء المشهد المعاش حينها بدأنا بحكم الزمالة والاندفاع نتحد مع بعضنا فمضينا سوياٍ في الاضراب والاحتجاج حتى أغلقت المدرسة على يد العْكúفِة الذي هو الحرس الملكي بقيادة علي أحمد عبدالله مانع (رحمهم الله جميعا).. وكان أكثر الطْلابú حماساٍ كما أتذكر يحيى الخْراشي الذي كنت على صلة مستمرة به والأخ عبدالكريم جميل من المناطق الوسطى -رحمه الله- حاولتْ أسأل عنه قالوا:”قْتل في المناطق الوسطى”.. إضافة إلى الزميل محمد حسين مرغم كان في وزارة المالية أيام ما كنت فيها.. وهؤلاء الطلاب الذين ذكرتهم كانوا ضمن القسم الليلى يدرسوا ويسكنوا ويلعبوا في المدرسة..
وحول ما كانت تمثله المدرسة قال الحيمي: كانت المدرسة عريقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ذات تصميم هندسي عريق جداٍ.. ومكان استراتيجي بالنسبة لكونها تقع على ربوة مقابل الباب الكبير لتعز التي كانت عاصمة يسكنها ولي العهد قبل 48م ومن ثم مقاماٍ للأمام أحمد بعد والده.. المدرسة كانت حاضرة بقوة سمعةٍ ومكانة في كل نواحي اليمن ومخاليفها لأنها الأولى في تعز وجمعت داخلها طلاباٍ من كل منطقة يمنية..ولم تكن هناك مدارس في اليمن سوى ما يقال له “المعلامـة”..ولا أستطيع القول إنها مدارس وحتى الأحمدية رغم مستواها الضخم إلا إن التعليم فيها بدائي ومحصور وكانت ابتدائية واعدادية فقط.. أما الثانوية ما جاءت إلا بعد الثورة حين جاء اخواننا المصريون وأتى المدرسون من مصر فكانت أول دفعة تخرجت من الثانوية بعد الثورة.. تلك كانت هي المدرسة الأحمدية التي كان يجب المحافظة عليها كمعلم ومأثرة تحكي أهم مرحلة زمنية في تاريخ الإمامة في اليمـن لكن للأسف تم إهمالها وتشويهها إلى أن تحولت إلى خراب واستبدلت بمبنى آخر..
وحول بدايات الثورة قال الحيمي : أتذكر إننا شعرنا بالبدايات الأولى للثوة عندما كنا في المدرسة وهي على مقربة من جامع المظفر – الذي كان يقع داخل أسوار مدينة تعز قرب الباب الكبير لتعز – وسمعنا صوت إمام جامع المظفر القاضي المغربي -رحمه الله- يعلن بالمايكرفون إن الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين قد مات وعند سماعنا للخبر من جامع المظفر جلسنا في دهشة نتابع المذياع.. لمتابعة أي جديد بعد موت الإمام وبعد ذلك سمعنا خطاب البدر الذي بايعه الناس في صنعاء إماماٍ الذي كان بمثابة ابتداء السير السريع نحو الثورة حيث لم تمر ستة أو سبعة أيام إلا والثورة قامت..
بعد ذلك جاء الأخوة المصريون وبدأت تتشكل ملامح الدولة العصرية والنظام الجمهوري وما أتذكره من تلك الأجواء هو أن تعز خرجت كلها في مظاهرات وفرح لا يوصف وخصوصاٍ حين زارها عبد الناصر في 65م ولا أتذكر بعد ذلك الجو من الانسجام كيف رجعت دوامة الصراع التي كان من نتائجها ظهور الحرس الوطني والمقاومة الشعبية واحتشاد الناس للدفاع عن النظام الجمهوري.. وللحقيقة لم أكن في المقاومة الشعبية فقد فضلت الدراسة حيث واصلت حتى تخرجت من الثانوية وسافرت بغداد.. هذا بالنسبة لي وبعض الزملاء.. مع العلم أن معظم الزملاء انضموا إلى التجنيد مع إطلاق أول دعوة للدفاع عن الثورة لتشكل المدرسة الأحمدية رافداٍ عظيماٍ من الشباب المتحمس والمتعلم للحرس والوطني والمقاومة الشعبية والسلك المدني الوظيفي ولا استطيع أن أتذكر اسماءهم الكثيرة.
الأحمدية .. النشأة والأهمية
في عام 1935م قام الأمير أحمد بن حميد الدين- ولي العهد-بإنشاء أول مدرسة في تعز سميت المدرسة الأحمدية نسبة لمؤسسها وبانيها سيف الاسلام الأمير أحمد.. كان ذلك العام -الذي تلى حرب 1934م مع الجارة السعودية الذي انتهى باتفاق الطائف- بداية لتوجه جديد لدى ولي العهد حيث فكر في الانتقال والإقامة في تعز وجعل أبرز الأدلة الشاهدة على وجوده في تعز هو انشاء المدرسة بعد قصر صالة الذي شيده الإمام يحيى وولي عهده الأمير أحمد قبل المدرسة الأحمدية التي اقتصرت في أول الأمر على التعليم الابتدائي لكنها كانت ممراٍ هاماٍ لسرب طويل من أعلام اليمن وقاماتها الفكرية والنضالية السامقة..
للاقتراب أكثر من معلم الأحمدية فنياٍ وهندسياٍ لجأنا إلى ذاكرة من ترعرعوا في أفيائها طلاباٍ للعلم والمعرفة وصاروا لبِناٍ في أساس السياج المنيع للثورة والنظام الجمهوري.. فعن مبنى المدرسة يقول أحد طلابها وهو المؤرخ والمفكر الاجتماعي الدكتور حمود العودي- دخل المدرس نهاية الخمسينات وفر منها مع زملائه الكبار إلى عدن خوفاٍ من بطش الامامة بعد أن أحكم حصار المدرسة-: “كان مبنى مدرسة الأحمدية على ربوة مرتفعة قليلاٍ خارج السور وقريبة من الباب الكبير لتعز حيث شْيد مبناها ذو الشكل الدائري من الحجر الصم وبـ” تفصول” -التصميم والتقسيم- هندسي داخلي وخارجي متناهي الجمال والدقة حيث بْنيت على الطراز العثماني من خلال المرافق المنظمة بدرجة عالية من التنسيق وكانت أسقفها من الخشب المرصوص بعناية جمالية بينما أراضي الفصول مسبوكة بالقضاض والممرات والأروقة والسلالم مرصوفة بحجر الحِبِش الأسود الخشن الجميل.. وكان هذا مبناها يقوم على دورين يستديران حول فناء واسع يحوي ملعب كرة الطائرة وملاعب أخرى.. وحديقتين متقابلتين على المدخل الرئيسي تحويان( شذروان) أو نوافير ماء شغالة على مدار اليوم الدراسي.
وعن الأهمية التي كانت تكتسبها المدرسة الأحمدية يقول الدكتور العودي: تكتسب المدرسة أهميتها من كونها الأولى في تعز وكونها نبعاٍ معرفياٍ تخرج منه الكثير من أعلام ومفكري ومثقفي اليمن في تاريخها المعاصر إلى جانب اهتمام الإمام أحمد ببنيانها ورعايتها ومن الإشارات المهمة في هذا الجانب إن الذي كان يقف وراء تصميمها الدائري والعمراني الجميل والتقاسيم الداخلية مجموعة من المهندسين الفلسطينيين والعراقيين أضف إلى ذلك أنها أديرت بكوادر فلسطينية وعراقية إلى يوم قيام الثورة ودخول المدرسين المصريين.. هذه الهالة من الأهمية والمزايا جعلتنا والناس جميعاٍ ننظر إليها كقبلة علم عظيمة..
خطــأ تاريخي
وعن هدم مدرسة الأحمدية واستبدالها بمبنى يقول المؤرخ العودي: هدم مدرسة الأحمدية وتغييرها خطأ تاريخي طال أحد أبرز المعالم في تعز ونتمنى أن لا يتكرر ذلك فكل معلم ملك للأجيال القادمة .. وحصلت في الفترات السابقة من حكم الأئمة وحتى في النظام الجمهوري أخطاء تاريخية في طمس وتدمير المعالم الهامة.. حيث طمس الكثير من ذاكرة الأحداث التي شهدتها اليمن .. كما لفت العودي إلى أن من أبرز الأخطاء التي حصلت في صنعاء : هو إزالة بعض المعالم القديمة والنادرة التي كانت ستظل تعبيراٍ عن الماضي بكل جوانبه السلبية والإيجابية فما كان سلبيا نأخذ منه العظة والعبرة وما كان ايجابيا نستفيد منه كعامل تحفيز يجعلنا نصنع شيئاٍ أجمل يتحدث عنا في المستقبل وعند الأجيال التي ستأتي بعدنا..
وقال أيضاٍ من أبرز المعالم التي غيرت هو ما كان قائماٍ سواد حزيز حيث قْتل الإمام يحيى – رحمه الله -حيث كانت هناك مجموعة صخور سوداء كبيرة كانت تبدو منظراٍ جميلا بسوادها وصلابتها وخلف هذه الصخور اكتمن القردعي والحسيني بعد ان وضعوا أحجاراٍ في طريق سيارة الإمام يحيى وحين وقفت السيارة لابعاد الأحجار أطلقوا النار على الامام يحيى ليقضوا عليه.. فكان من أهمية هذا المكان التاريخي كونه يقع داخل سور ومزاراٍ مهماٍ ومعلماٍ يدل على حدث الثورة الدستورية.. ولكن للأسف طمس ذلك المعلم..
أجواء المدرسة ذاكرة حيِة
أحد طلاب المدرسة الأحمدية وهو الإعلامي والأستاذ شائف الحسيني يسترجع الجو العام والدراسي في المدرسة الأحمدية في العام 1960م حيث يقول: أتذكر أني في اللحظة الأولى لدخولي المدرسة رأيت وشاهدت كل شيء حولي غريباٍ التلاميذ والمدرسين وكل الناس غرباء وكما لو أني نزلت في كوكب آخر وأرض أخرى ليس لي معرفة بأحد لا بالمكان ولا بالناس ولم يكن أحد من الأسرة قد عرفني أو شرح لي عن البيئة التي سأنزل فيها رأيت كل الناس متجمعين هنا وهناك طلاب صغار وكبار على شكل مجموعات يؤطرها التعارف والتقارب بين أبناء القرية الواحدة أو المنطقة الجغرافية الواحدة فعندما يدخل أي تلميذ في هذا الوضع الجديد بالمدرسة يسأل عن أبناء منطقته فهم من سيعرفِونك ويساندونك ويقفون بجانبك إذا مرضت أو صار لك مكروه.. وبهذا الشكل اعتقدت أن ذلك هو الوضع النهائي في المدرسة إلى أن أخذت أتعرِفú على التلاميذ من مختلف مناطق اليمن وأريافه ونشأت بيننا علاقات الزمالة الدراسية والمحبة التي لا زالت بيننا حتى اليوم وبدأت تنقشع عني الغمة والانزواء.
وأضاف الحسيني: وأول يوم دراسي في المدرسة تم اختباري لتحديد المستوى التعليمي وكنت في القرية أحفظ بعض آيات القرآن شفوياٍ ولكن لا أعرف القراءة ولا الكتابة.. فلا أستطيع جمع الحروف وتكوين الكلمات.ـ وإنما كنت أسمع وأحفظ.. فاختبروني فدخلت رياض الأطفال مع طلبة صغار مشاغبين وبعضهم أكبر مني وأنا مذهول من هذه المشاهد¿ الجديدة التي أراها لأول مرة.
وكان أول الدروس في القراءة المصورة ماذا يلبس الناس في الشتاء فكنت أستغرب جداٍ حين يتحدثون عن ملابس بالصيف وملابس في الشتاء فلا أعرف ما هو الصيف ولا الشتاء فأنا ألبس(زنة) قميصاٍ واحداٍ طوال العام حتى يتقطع..
ويقول الحسيني : أتذكر إنه كان يغشاني الحزن الشديد والكآبة عندما أسمعهم في الفصل وهم يرددون بعض الأبيات الشعرية تضمنتها القراءة المصورة وفي آخرها:
“وإذا الشمس توارت
عدت للبيت المحبِبú”
فكانت الغربة والهواجس تحاصرني أين هذا البيت المحبب فأنا في تعز في المدرسة غريب والبيت عني بعيد جداٍ اين اهلي واين اقراني و رفاقي في القرية.
وقال أيضاٍ : تلك هي الأجواء الدراسية التي كنا نعيشها نبدأها غرباء وننهيها ونحن أسرة واحدة في الهم والرسالة والعلم والمعرفة.. أما عن المدرسة كمكان فقد كانت الأحمدية معلماٍ تاريخياٍ هاماٍ ومبنى عظيماٍ ومنطلقاٍ لشريحة واسعة من المستنيرين الذين دعموا النظام الجمهوري ودافعوا عن الثورة..
عصيان الأحمدية الطلابي
من المد القومي بدأ الوعي الطلابي يتنامى متطوراٍ إلى الاعتراض والاحتجاج كما فهمت من الاستاذ محمد الحيمي وهو ما أكده الدكتور العودي حيث قال: وأتذكر أن العام 1960م شهد عملية الانفصال بين مصر وسوريا وهذا الانفصال كان عملية مزعجة للجماهير العربية خصوصاٍ الطلابية وكانت مدرسة الأحمدية تعيش هذا الانزعاج حيث خرجنا في مظاهرات صاخبة .. وللحقيقة أنا لم أكن من الطلاب الكبار مرة ولا من الصغار مرة ولكن أنا كنت متحمساٍ مع الشباب خصوصاٍ وكانت هناك قيادات ممتازة من الشباب أتذكر منهم الأخ محمد مرغم والأخ ناجي يحيى سعد صلاح وإسماعيل الكبسي رحمه الله وقد كان لدى هؤلاء الشباب بعض أشكال التأطير الحزبي في حركة القوميين العرب وفي البعث.. وربما كانت هذه بداية للحراك الطلابي.. لكن ليس الحركة الطلابية تجاه قضايا الداخل وإنما هي أيضاٍ امتداد أو انعكاس للبعد القومي الطلابي لأننا استأنا من الانفصال ولأن عبد الناصر كان بالنسبة للناس جميعاٍ رمزاٍ كبيراٍ جداٍ وكان صوت أحمد سعيد الذي يعلق من صوت العرب في صباح كل يوم هو الرسالة اليومية التي تنبني عليها كل التعليمات لما ينبغي فعله خلال كل (24) ساعة.. إضافة إلى أنه كان يتم تسريب الكثير من الصحف والمجلات من عدن إلى تعز.. كما أن جهاز الراديو قد وصل ليس إلى المدن الرئيسية فحسب بل إلى القرى من بداية الخمسينات.. لذلك طبيعي إننا نتابع مجريات أحداث الساحة العربية فخرجنا بمظاهرات ولافتات وهتافات ضد الكزبري الذي قاد الانفصال وكان موقفاٍ شهيراٍ أدى دوره في ذلك الوقت وبدأ يشكل بالنسبة لنا حافزاٍ لاستمرارية الوعي الوطني.. والتطلع لمستقبل أفضل خصوصاٍ والمجتمع اليمني يعاني وضعاٍ مأساوياٍ.. جهل فقر مرض حرمان وغيرها من الجراحات التي يحس بها الطلاب فكانت العاصفة هادئة تنتظر أي حدث يحركها فكان حدث المدرسة العلمية بصنعاء المشهورة بمدرسة الأيتام..
تفاصيل وثائقية
وأنا أنبش بحثاٍ عن تفاصيل أكثر لحقيقة ما جرى في مدرسة الأحمدية من إضراب تطور إلى عصيان عقب ما حدث لطلاب صنعاء حصلت صدفةٍ على حوار صحفي نشر في صحيفة الجمهورية قبل عامين مع (العميد صالح عبدالله صبِار – أحد الطلاب الذين شاركوا في إضراب مدرسة الأحمدية ) حيث تحدث قائلاٍ: حدثت مظاهرة بمدرسة دار الأيتام في صنعاء بسبب أشياء تتعلق بمستحقات الطلبة قْتل على إثرها أحد الطلبة برصاص أحد الجنود عندما كان يحاول إنزال صورة البدر.. وعلى إثرها تطورت الأحداث وفوجئنا في اليوم التالي ونحن بمدرسة الأحمدية في تعز بقدوم ثلاثة طلاب وافدين اتضح فيما بعد أنهم من طلبة مدرسة دار الأيتام في صنعاء وقد التقوا مساءٍ كبار الطلبة في مدرسة الأحمدية وأطلعوهم على أحداث دار الأيتام وطلبوا من زملائهم في الأحمدية موقفاٍ تضامنياٍ مع قضيتهم وقد انحصر الحوار بين الرموز من طلبة الأحمدية والطلاب الوافدين وخرج الطرفان بنتيجة مفادها ضرورة تنظيم عصيان في المدرسة كشكل من أشكال الإسناد لطلبة صنعاء وقد جرت المشاورات في أجواء سرية.
وحول ما دار في اللقاء السري : قال صبار:انتهى لقاء الطرفين السري فقام البارزون من طلبة الأحمدية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: يحيى الخراشي إسماعيل الكبسي محمد مرغم أحمد الإرياني ومحمد المفتي وعلي البواب ويحيى ناصر العتمي زيد الغابري محمد عبدالله الإرياني ومن المعلمين في المدرسة على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ محمد سيف عباس والأستاذ سعدون وكانا من المحرضين.. وبالنظر إلى أنه كان لكل غرفة رئيسها فقد اجتمع رؤساء الفرق للاتفاق على ساعة الصفر والبدء بالعصيان.
وقد حدث ذلك في مساء نفس اليوم وبشكل سري شديد لأن للإمام عيوناٍ من الطلبة أنفسهم في القسم الداخلي وقد كانت ساعة الصفر الساعة العاشرة صباحاٍ أثناء تواجد الطلبة الليليين والنهاريين في المدرسة حيث كانت المدرسة تعتمد نظام الطلبة النهاريين وهم المقيمون في المدينة والطلبة الليليون وهم الوافدون من خارج المدينة… أما عن ردود أفعال الطلبة فقد أظهروا حماساٍ للتضامن ومناصرة زملائهم في صنعاء.
إغلاق باب المدرسة
وقال العميد عبدالله صبار أيضاٍ : وفي الساعة العاشرة من اليوم التالي اتخذ كبار الطلبة إجراءات أمنية منها: إغلاق الباب الرئيس للمدرسة للحيلولة دون دخول الحرس الخارجي المرابط في البوابة من الخارج تلى ذلك أن أخذ بعض قادة العصيان موقعاٍ مشرفاٍ على فناء الساحة فيما تولى آخرون إخراج كافة الطلبة الليليين والنهاريين إلى الساحة وألقى كل من الطالب يحيى الخراشي وإسماعيل الكبسي بيان العصيان وأسبابه ومطالبه وطرح الكبسي على مسامع الجميع عبارات بصوت قوي: «إننا سنناصر زملاءنا في صنعاء دون خوف من الإمام ولن يْفض عصياننا حتى لو استخدم طائراته ومدفعيته.. فنحن لا نخاف الموت»… واستْثني من ذلك من يرغب من الطلبة النهاريين في عدم اتخاذ الموقف نفسه فانضم للعصيان مجموعة من النهاريين ورابطوا داخل المدرسة فيما غادر الآخرون ساحة المدرسة ليتضح فيما بعد أنهم مثلوا سنداٍ مهماٍ لزملائهم في الداخل لاسيما عندما بدأ الإمام بقطع الإمدادات المتمثلة في الماء والكهرباء والوجبات في نفس اليوم.
وحول موقف المواطنين وتمكنهم من إيصال المؤن اللازمة في ظل حصار العسكر قال صبار: خلال هذا الظرف الحرج كان أهالي تعز على اختلاف فئاتهم يْظهرون تعاطفاٍ منقطع النظير معنا حيث كانوا يلقون بصرر الطعام إلى فناء المدرسة من الجهة الغربية والجنوبية متجاوزين الحراسة وحين نفتحها نفاجأ بوجود نقود في جوف أرغفة الخبز.. أما السر في ذلك فهو أن حراس هاتين الجهتين الذين كانوا من الجيش النظامي يكتوون بالأوضاع السيئة ذاتها في حين كان يشغل حراسة الجهة الشمالية حرس اشتهروا بالولاء الشديد للإمام في كل أحواله… هذا بالنسبة للأطعمة أما المياه فلها قصة أخرى حيث تسللنا أنا وأحد الزملاء إلى خارج المدرسة واعترضنا طريق أحد السقائين ممن يمتهنون بيع الماء للأهالي والمحلات التجارية وفي أثناء المشادة معه تدخل المصور المعروف أحمد عمر العبسي ودفع تكلفة سبعة عشر سقاءٍ تقريباٍ ووجههم باتجاه المدرسة من الجهة الجنوبية.. ومع هذا الحصار كان يتردد نائب الإمام الوشلي ورئيس حرس الإمام علي مانع بصورة يومية على المدرسة والالتقاء برموز العصيان في محاولة لاستشفاف ما وراء هذا العصيان.. من أطراف من خارج المدرسة تنتمي إلى القوى المناوئة للامام .. وحينها ترددت أخبار عن أن رئيس الحرس خلص إلى أنه ليس من الحكمة أن يستمر قمع الطلبة بهذه الصورة التي ستوسع دائرة الغضب الشعبي واقترح على الإمام أن ينظر في مطالبهم إلا أن الأخير قفز على اقتراحه وأمره بصيغة «كل واحد يروح بيته وعفا الله عما سلف» حيث رأى أن هذه الصيغة التي تشبه العفو بمثابة مكرمة منه.
مسيرة بيضاء باتجاه المصلى
ويواصل العميد عبدالله صبار قائلاٍ: بعد أسبوع كامل من الحصار والتجويع والشد والجذب والقلق على مصير ضاعت معالمه انفتحت أبواب المدرسة وخرج منها سرب الطلاب المتمردين وقد ارتدوا ملابس من اللون الأبيض وحملوا صرراٍ جمعوا فيها أشياءهم كانت الشمس قد بدأت تلملم أذيالها استعداداٍ للغروب وبدأ الصمت يستولي على البلاد عندما كانت مسيرة الطلاب البيضاء تتجه إلى المصلى على بعد كيلومتر واحد تقريباٍ غرب موقع الأحداث وهم ينشدون:( في طريق النصر سيروا/ بنظام واتحاد// وعلى الأعداء ثوروا/ ثورة تمحو الفساد///وغداٍ يوم الظفر).
تردد صدى النشيد في الجبال والتلال المحيطة بمدينة تعز وخرج كل من فيها ينظرون للمنشدين ومسيرتهم البيضاء… ارتاحت قافلة الطلبة قليلاٍ في المصلى ثم استأنفت مسيرتها إلى ضاحية جبل الضربة.
ويضيف أيضاٍ: كان الظلام قد خيم عندما وصلوا إلى الضربة وهناك جلسوا يتدارسون حالهم وكيف يتدبرون أمرهم وكان التعب والجوع قد نال منهم وبينما هم في همهم سمعوا هدير سيارة عسكرية فظنوا أن الإمام قرر الغدر فاتخذوا وضعاٍ دفاعياٍ وأرسلوا أحد قادتهم ليستطلع الأمر لمعرفة من في السيارة فأقسموا له أن هذا غير صحيح وإنما أتونا ناصحين بأن يصعدوا إلى القصر ويقدموا الشكر للإمام الذي كان يعلمهم ويطعمهم ويؤويهم مجاناٍ وأن ينهوا خصومتهم معه بشرف واحترام متبادل.. وافق الطلبة المتمردون على المقترح الأخلاقي ومجدداٍ تحركت المسيرة قاصدة المقام الإمامي وعندما وصلت هتف أحد قادتهم: «يعيش مولانا أمير المؤمنين» والطلبة يرددون وراءه نفس الهتاف ثلاث مرات… عندها خرج بعض أفراد الأسرة المالكة من النوافذ وأخذوا يشيرون لهم إشارات مفادها هذا يكفي اذهبوا… ومن جديد عاد الطلاب يسيرون في جنح الظلام وتوقفوا هذه المرة فيما يعرف الآن بالسوق المركزي بشارع جمال وهناك دْعي الجميع ليأخذون نصيبهم من الأموال التي حصلوا عليها من الأهالي أثناء العصيان.
كان وضع الطلبة الأكبر سناٍ أكثر حرجاٍ من الصغار فلم يعد يطيب لهم عيشاٍ في هذه البلاد وإذا ما قرروا البقاء فإن السلطات الإمامية ستقتص منهم عاجلاٍ أو آجلاٍ.. ومن هذا المنطلق فكر جميع الطلبة أنه إذا كنا قد بدأنا كل شيء تضامناٍ مع زملائنا في صنعاء لماذا لا ننهي الأمر بشكل تضامني أيضاٍ لذلك قرر جميع الطلبة التنازل عن حصتهم من المال لزملائهم الأكبر سناٍ والذين كانوا قد قرروا الفرار إلى عدن أو العودة لقراهم أما الطلبة الأصغر سناٍ فقد قرروا العودة للمدرسة.