بعد فشل ثورة 48 الدستورية بدأت الموجة الثانية من الحركة الوطنية لمواصلة مسار النضال ضد الملكية والاستعمار في غير اتجاه آخذاٍ في التصاعد وفقاٍ لادراك من تبقى من الأحرار وأيضاٍ ظهور جيل جديد من المثقفين والصحافيين واتسم كفاحهم بالنزعة الوطنية والقومية والمطالبة بزوال الملكية في الشمال وطرد الاستعمار من الجنوب والعمل على إعادة الوحدة للوطن اليمني وتحرير العالم العربي من ربقة الاستعمار.
في تلك الظروف نشأ جيل من شباب اليمن في ظروف صعبة إبان النظام الملكي والاستعماري متأثراٍ بالتحولات الثقافية والفكرية والسياسية التي سادت المنطقة العربية.
وقد اتخذ الإمام أحمد من تعز عاصمة لحكمه في أواخر الاربعينيات وكان ذلك من عوامل وأسباب اللقاءات الأوسع بين مختلف المناطق فتواصل اللقاء المحدد بين المجتمع الزراعي والمجتمع التجاري وكانت تعز شديدة لاختلاف عن صنعاء وذلك بنزوعها التجاري وكثرة خيوط اتصالها بعدن المحتلة يوم ذاك وبسائر الأقطار المنتجة للبضائع أو مصدرتها.
لهذا كانت تعز أصح من غيرها مناخا جديدا لتتبع الأخبار وجديد المعامل وبحكم طلب المنافع توافدت إليها الجموع من القواعد المحافظة كصعدة وحجة وشهارة والقفلة.
وكان الوافدون إلى تعز أكثر ميولا إلى مافي” تعز” من حداثة مهما كان نوعها لأن الأكثرية قروية أعنف استجابة لمغريات المدينة التجارية وكان الخروج عن التقاليد بأي طريقة يلحق بالتحرر وكانت أسواق” تعز” أقدر على جلب كل شيء.
فعمدت المجالس لمختلف الجماعات وكانت أخبار السياسة رابعة القات والفنية في بعض المجالس كما كانت أفكار السياسة ثانية الأكل والشرب في مجالس أخرى ونتيجة لهذا الاهتمام توافدت الكتب والمجلات والصحف على مدينة تعز ثم منها إلى سواها كما انتشر المذياع عن طريق التهريب النشيط حتى وصل أقصى القرى بدون استئذان ولا ترخيص.
واكب هذه الأجواء افتتاح العديد من المكتبات فأصبحت تعز كعدن في استقبال حصاد المطابع اللبنانية والمصرية والسورية فإذا بالكتاب يصل إلى تعز بعد نشره بأسابيع أو بعد ترجمته بشهور فبرغم من الأجواء المنتعشة سياسيا وثقافيا في تعز فلم تظهر فيها النقابات العمالية أو في صنعاء وإنما ظهرت مبكرة في عدن واعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى اهتمام الانجليز الذين ركزوا اهتمامهم على عدن كسوق تجاري لمنتجات مصانعهم ومحطة تزويد السفن الأجنبية بالوقود وقاعدة عسكرية استراتيجية حيث شكلت في تلك الفترة حلقة هامة من سلسلة القواعد الممتدة من جبل طارق حتى سنغافورا.
كما تضاعف اهتمام البريطانيين بتوسيع قاعدتهم العسكرية وتنشيط التجارة بعد تأميم حكومة مصدق للنفط الإيراني وتأميم قناة السويس ونمو حركة التحرر الوطني في أفريقيا ضد الاستعمار بعد ثورة يوليو 52م بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر.
هذه العوامل وغيرها هيأت لولادة النقابة العمالية ثم الجمعيات والأحزاب السياسية والاتحادات والروابط الطلابية اليمنية في الخارج.
فللحقيقة والتاريخ فإن الوطن العربي شهد خلال عقد الخمسينيات من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي نهوضا قويا تحرريا عامرا ضد الاستعمار القديم تمثل في انتصار حركة التحرير العربية في حزب السويس واندلاع ثورة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي وقيام الوحدة بين مصر وسوريا وانتصار ثورة 14 يوليو في العراق التي أسقطت بقيامها حلف بغداد الاستعماري يضاف إلى هذه الانتصارات معركة بناء السد العالي التي خاضتها مصر وكان لهذه الانتصارات والتحولات التأثير في مسار الحركة الوطنية اليمنية وفي انتشار الفكر القومي التحرري والوحدوي بتياراته المختلفة منها حزب البعث والقوميين العرب إضافة إلى التيارات الماوية والماركسية.
إلا أن هذه التيارات لم تنتقل إلى مرحلة النضال والعمل المنظم الا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في حين أن النقابات كانت قد سبقتها في الظهور.
لم يأت انعقاد مؤتمر عدن للنقابات الست في عام 1956م الا والتكوينات النقابية موحدة ولها دورها المؤثر في الحياة وكان من مهام النقابات العمالية في عدن النضال من أجل المهام الاقتصادية والمهنية فتحققت للعمال مكاسب ملموسة في يتعلق بتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور واخذت في المطالبة بالضمان الاجتماعي.
ومن خلال هذه النضالات شعر العمال بوحدتهم وتضامنهم وقوة العمل المنظم كما اخذوا يكتسبون وعياٍ متزايداٍ تجاه القضية اليمنية.
وكان من ابرز مظاهر وحدة العمل الوطني شمالاٍ وجنوباٍ مشاركة العمال والطلاب والأحزاب في المظاهرات في عدن لا سقاط المشروع البريطاني المتمثل في ( دولة الجنوب العربي).
حيث قدمت بريطانيا مشروع قرار اعطى ثلاثة مقاعد للعدنيين في المجلس التشريعي على أساس أن يعطي حق الانتخاب لجميع الجاليات الأجنبية ويحرم من هذا الحق أبناء الشعب في شمال الوطن وشكل هذا المشروع بداية الاعمال النضالية.
فقد رفضت الجماهير هذا المخطط وقامت الحركات الوطنية ومن ضمنها الاتحاد اليمني وبعض النوادي الرياضية وغيرها بأعنف مقاطعة للانتخابات الاستعمارية وكانت بمثابة الرفض النهائي والحاسم لكل مخططات الاستعمار وبعد هذا النجاح للمقاطعة ترسخت وحدة اليمن الطبيعية ضمن الوحدة العربية الشاملة ففي شمال الوطن حل الحس الثوري محل الحس الإصلاحي فبعد أن كان المثقفون في الاربعينيات يقولون نريد أن ننهض أصحبت همسات بدء الخمسينيات نريد أن نثور وكان انفجار أي ثورة في أي بلد كعرس بين المثقفين لأن الممكن هناك ممكن هنا ولأن فترة الخمسينيات كانت أكثر التصاقا بالعالم وتحولاته , إذ تزايدت أعداد البعثات والإرساليات كما انفتح باب الهجرة إلى أقصى مدى لهذا التحق العشرات من اليمنيين بالثانوية والكليات العربية والعالمية وتخرج أفراد من مبتعثي الاربعينيات فكانوا قدوة للشباب المتطلع في الداخل فمن لم يحصل على بعثة دراسية من قبل الدولة حصل عليها بطريقة الفرار من عدن والسعودية والكويت .
على أن نضال الأحزاب التي ظهرت في عدن وكان لها امتداد على الساحة اليمنية شمالها وجنوبها مثل الجبهة اليمنية الكبرى والاتحاد اليمني واتحاد الشعب الديمقراطي والجبهة الوطنية المتحدة وحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب التي وضعت شعار الوحدة اليمنية في مقدمة نضالها الوطني لاسقاط النظام الملكي وطرد الاستعمار البريطاني وتحقيق الوحدة اليمنية .
كما كان للمد الوطني ظروفه التاريخية العملية في مرحلة الخمسينيات فقد تسارعت الخطى في شمال الوطن فقد قام انقلاب الجيش بقيادة المقدم الشهيد أحمد الثلايا عام 1955م . كما ظهرت الأحزاب والنقابات وإن كانت بصورة سرية حيث تنامى نشاط النوادي الرياضية والثقافية بشكل كبير وبدأ الطلاب يعبرون عن سخطهم من الأوضاع المزرية ويطالبون بالحرية وكان أن شهدت تعز تظاهرات طلابية لمدرسة الأحمدية في 1959م .
وما حدث في تعز لم يكن بعيدا عما يجري في عدن ففي 24/10/1962م زحفت جماهير الشعب من عمال وطلاب وسياسيين وكتاب نحو المجلس التشريعي لإسقاط الاتحاد المزيف وهم يحملون شعار الوحدة اليمنية وبعد يومين من ذلك الزحف التاريخي قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م التي أسقطت الحكم الملكي في شمال الوطن لقد دشن مرحلة استكمال التحرر من الاستعمار إذ لم يمض عام واحد على ذكرى قيام الثورة حتى اندلعت شرارة الكفاح المسلح من جبال ردفان في 14 أكتوبر 63م لينخرط أبناء الشعب اليمني شماله وجنوبه في النضال المشترك في ابلغ مشهد لتجسيد الوحدة اليمنية.
قد يعجبك ايضا