“تراتيل أمازيغية”.. رواية التاريخ وقضايا الإنسان

مصطفى لغتيري روائي وناشط ثقافي مغربي.. له العديد من الإصدارات الروائية المتميزة.. والكتابات النقدية الجادة.. أعماله الإبداعية عادة ما تأخذ نسقا واضحاٍ..ضمن مشروعه الكبير الذي يعالج  من خلاله قضايا إنسانية  بثوب مغربي .. يغوص  لغتيري في قلب قيم مهترئة ليساهم بأعماله في هدمها وتشييد قيم جديدة هي من روح التحرر والعدل.
تراتيل أمازيغية الصادرة 2013م عن دار نايا دمشق. تأتي في عشرة فصول.  يحضر فيها المكان كإحدى الشخصيات .. وينافس بقوة  في أكثر من مشهد أقرب إلى الأسطورة بين إنسان  البحر والسهل وبين البحر وجبال الأطلس.
 يقدم لنا الكاتب روايته من خلال خط زمني متصاعد .. ومشوق يعالج  تلك الأحداث المترابطة ضمن قضية تاريخية إنسانية .. تتمثل في أمل الوحدة والتكامل بين مجتمع تتنازعه الفرقة والانقسامات. أمل أمازيغي  لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف مع تلك الرؤى والأطروحات الإنسانية .
أختار الكاتب  محور الغزاة الرومان لثغور موطن الأمازيغ .. ذاهبا بالقارئ إلى مجاهل تاريخية .. زمن أسطورة الكاهنة .. التي كثيرا ما قرأنا عنها .. وهي شخصية تاريخية تمنيت أن أقرأ رواية تدور حول هذه المرأة المختلفة والغامضة.  ذلك الغازي الروماني حرك في ملك شاب جذوة الرغبة في الوحدة.  ليعمل على تحقيقها .. ويبذل جل جهده لإعلاء مبادئ سامية وسط قوم لم يلتفوا حوله بقدر ما كانت تعنيهم مصالحهم الصغيرة .
ولغتيري باختياره أحدى القضايا التي تشغل الإنسان في كل بقاع الأرض وعلى مر العصور الوحدة والتكامل والقوة .. يذكرنا بالكثير من الأعمال  الروائية عربية وكردية وأمريكية لاتينية وأفريقية وروسية وصينية وغيرها.
بل هناك تشابه بين ما تتناوله روايات لغتيري والروائي المصري إبراهيم عبد المجيد وكذلك علاء الأسواني والروائي عبده خال ورجاء عالم. حين تناقش الرواية قضايا إنسانية تهم شعب ينتمي إلى أرض ولغة وعرق واحد.  مع اختلاف التناولات طبعا وزوايا  تسليط الضوء من روائي لآخر .. وكذلك أبعاد القضايا المطروحة بين الكتاب.. لكن جميع تلك الأعمال تصب في هموم وتطلعات إنسانية مشروعة. تراتيل أمازيغية تناولت عدة قضايا إضافة إلى الوحدة والتكامل.. فهناك ما يختص بتربية أبناء الحكام كطغاة للغد.
الراوي أمير أمازيغي “غيلاس” يصف لنا حياته بداخل قصر أبيه الملك.. في البداية يرينا كيف يصنع الطغاة .. فهو الصبي الذي يتواطأ جميع من في القصر حتى الأطفال ليكون كائنا لا يقهر”كنت أشعر بنوع من التواطؤ الخفي..الذي يجعلني دائما أكون المنتصر.. وكأن الجميع  أتفق على ذلك, دون أن يخبروني بالأمر..لقد تعلم الصغار الدرس من الكبار واستوعبوه جيدا. الملك ابن الآلهة “. وهو الصُبي الذي لا يتقدمه أحد حين يسير كونه كائنا أسمى ممن حوله من صغار وكبار “وعندما أمضي في طريقي نحو مكان ما اشعر بأن الجميع يتعمد أن يكون خلفي فلا أحد يتقدمني”. وهو الكائن الذي على الجميع أن ينشغلوا به وبما يقوم به على اعتبار أن كل أعمال تصب في رضا الآلهة.. وهو دوما على حق والبقية عادة ما يخطئون “ابن الملك حضر .. ابن الملك قادم.. ابن الملك سيغادر مجلسنا.. ابن الملك يلعب.. ابن الملك سينام.. ابن الملك. وكان  عليِ أن أتقمص الدور”  يرى  القارئ  من أي بيئة يأتي الطغاة .. تلك القصور التي تربي الصغار على أنهم أبناء السماء وغيرهم يرقات ترابية وكيف يربى أبناء الملوك أو الرؤساء خاصة في العالم الثالث حتى يومنا هذا. وأنهم بشر ولكن من طينة مختلفة.. وأن الآلهة دوما في صفهم.. وهكذا يؤمنون ” بأن الملك الصغير لا يقهر أبدا وأن الآلهة تتدخل…” ليتيقن ذلك الصبي بأنه بالفعل غير كل البشر”هذا الاقتناع الراسخ لم يعشش فقط في أذهان الأطفال , بل يؤمن به حتى الكبار كذلك, أنا نفسي كنت مؤمنا به” ولا يكتفي الطغاة بذلك فعادة ما يحيطون أنفسهم بأساطير تتحول إلى عقائد راسخة في أوساط الشعب بأن لجذورهم صلة بالسماء وأن الجد الأول ناصرته الآلهة نتيجة لوفائه لها .. وقد تعهدت الآلهة بنصره ومؤازرته على من يعاديه.. وإن تلك الصلات دائمة لكل سلالته..ولذلك تقول: ” سأمنحك الملك وسأحمي سلالتك”
وهكذا يقدم لنا الكاتب آلية صناعة الطاغية وبذر يقين راسخ بأنهم فوق كل البشر.. وأن رعاية السماء تجعلهم وذرياتهم في سمو دائم.
لم يستخدم الكاتب في هذا العمل حيلة الفنية التي تعودناها في أعماله السابقة.. معتمدا في هذا الخيال على أحداث خيالية وأجواء أسطورية كما هو في كل أعماله..  فالكاتب يمتلك قدرة على التخييل وخلق أجواء مدهشة ومثيرة دوما. ففي رحلة الأمير غيلاس وصديقه أوسمان-أوسمان الأمير الذي اختطف من ضفاف نهر النيجر ليباع عبدا- الذي اتخذه صديقا ووزيرا.. يغادرا أرض المملكة في مغامرة غربا.. تلك المغامرة التي جعلته يغادر صبيا ويعود شابا فتيا يمتلك الكثير من الحكمة بعد أهوال واجهته وصديقه.. وكأنه كان بحاجتها كي يكون ملكا خلفا لأبيه الذي توفي في غيابه.. يعود وتستقبله شقيقته “توزين” والحكيم”يفاو” الذي درسه الحكمة وبقية قيادات المملكة لينصبوه ملكا خلفا لأبيه المتوفي.
كل تلك الأحداث قدمها لنا الكاتب كمقدمات لما هو أساس ورسالة الرواية.. الحدث المحوري اختطاف الأميرة “توسمان” ابنه الملك “شيشنق”  ملك مجاور لمملكة غيلاس .. الغزاة الرومان قاموا بذلك أثناء توجهها لتلبية دعوة الأميرة توزين شقيقة الملك.
ومن هنا تبدأ أحداث الرواية بالتصاعد الدرامي المثير .. وتأخذ الشخصيات في التنامي.. إذ أن الملك يذهب ليفاوض الرومان متخفيا ضمن وفد من الفرسان. مغامرا ما يجعل القارئ في قلق على تلك الشخصية التي رغم تربيتها تلك إلا أنها لم تكن شخصية متسلطة أو طاغية.. بل ملكا محبوبا من الجميع.. على عكس ما توقعناه أثناء الأسطر الأولى للرواية من سير أحداثها.. الملك الشاب يعود من قلعة الرومان بأعجوبة بعد أن قرر الرومان احتجاز جميع من وفدوا إليهم للتفاوض على إطلاق الأمير توسمان من الغزاة الرومان الذي أضحت لهم قلعة حربية حصينة في أرض الأمازيغ.. ليختاروه رسولا يحمل رسالتهم إلى جميع قبائل الأمازيغ  يدعوهم للخضوع لسيطرتهم مقابل إطلاق الأميرة.
 يعود الملك ليرسل رؤساء وأمراء القبائل الأمازيغية يدعوهم لرص صفوفهم ومواجهة وطرد الغازي  الروماني من أرضهم وإطلاق الأميرة من الأسر.
هي أحداث أجاد الكاتب في تسلسلها وترابطها.. والأروع أنه قدم لنا جغرافية الأطلس والسهول حتى السواحل بشكل بانورامي مدهش.. كما سلط الضوء على تلك المؤامرات الصغيرة  بين الأمازيغ حين سعى الملك الشاب إلى توحيدهم لطرد الغازي.. ليكتشف بأن جل أمرائهم قد وقعوا اتفاقيات سرية مع  الرومان لضمان استمرار مصالحهم.. ليكتفي الملك الشاب  بالقلة ممن كان لهم نفس هدفه توحيد القبائل الأمازيغية وطرد الغازي..  باشر بجمع جيش من تلك القبائل وتدريبها تدريبا عاليا.. بل أن شقيقته توزين شاركت في تلك التدريبات ومجموعة من الفتيات.. ليأتي اليوم الذي يزحف فيه الملك الشاب مباغتا لمن في  قلعة الرومان ويقتحمها ويحرق ويقتل كل من بداخلها.. وهكذا نفذ أول هجوم ناجح على الغزاة الرومان وأنقذ فيها الأميرة توسمان..وطارت أخبار تلك المعركة بين قبائل الأمازيغ  شرقا وغربا من ضفاف نهر النيجر إلى ضاف المتوسط شرقا  على بساط الصحراء الحريري حتى مصر.
إذا لم يكن  الملك الصغير طاغية رغم تلك التربية التي وصفها لنا.. وكأن رحلته وصديقه أوسمان عبر أراضي الأمازيغ من جبال الأطلس غربا  قد غيرت فيه الكثير لتصنعه رجلا يشعر بما يشعر به عامة الناس ويحس بما يعانونه. بل ويسعى إلى تحقيق أمانيهم وجمع شملهم.. على طريق الوحدة التي يتطلع إليها الجميع رغم تلك الخيانات القبيحة التي يمارسها المتسلطون لحماية مصالحهم من خلال تحالفاتهم  السرية مع الغزاة. ولم يكتفي الملك الشاب بذلك بل نظم عدة حملات قاتل فيها الرومان.. واستمر في تحقيق هدفه.
 ينهي الكاتب روايته الشيقة بمقتل صديق الملك ووزيره أوسمان حين يْطعن  بين ذراعيه.. فبعد تلك الانتصارات التي حققها على الرومان وبعد زواج الملك الشاب من الأميرة توسمان التي أنقذها من الأسر.. وزواج وزيره أوسمان من شقيقته توزان.. يقيم احتفالات كبيرة دعى إليها رؤساء وأمراء قبائل الأمازيغ بمناسبة حمل زوجته وحمل شقيقته زوجه صديقه أوسمان.. حفل ضخم وكبير.. كان الجميع في بهجة وسرور.. ليفاجأ الجميع  بشاب أمازيغي يهاجم الملك الشاب شاهرا خنجره .. أوسمان الذي كان يرقاب ما حوله تصدى للطعنة  بأن رمى نفسه على الملك..  ليسقط مضرجا بدمائه وقبل أن يلفظ روحه قال لصديقه الملك الشاب “لقد عشت ملكا وصديق ملك شكرا لك يا غيلاس”
 حفلت الرواية بأجواء أسطورية وأحداث خيالية وشخصيات واقعية وأخرى عجائبية.. ذلك ما يجعلنا نتساءل أي خيال يمتلكه هذا الروائي.. وأي قدرة على تقديم تلك الأجواء المدهشة حتى أن القارئ يتمنى أن يرى تلك الأرض وتضاريسها وإنسانها.. روائي غزير الإنتاج .. واسع الخيال .. نتمنى  أن نطلع على جديدة دوما.

قد يعجبك ايضا