في خضمِّ التحوُّلات المتلاحقة التي تشهدُها حضرموت، يعود المشهد اليمني ليكشف جانبًا من الحقيقة التي يعرفها الجميع منذ سنوات، لكنهم يتردّدون في مواجهتها؛ فليست كُـلّ الحركات التي ترفع شعارات الوطنية تعمل لصالح الوطن، ولا كُـلّ القوى التي تتحدَّثُ عن الاستقلال والسيادة تمتلك قرارها فعلًا، وبعض من يتصدرون المشهد ليسوا أكثر من واجهات لأجندات خارجية تدار بعمق وهدوء، ويتبدل دورهم كلما تغيرت المرحلة وطبيعة المشكلة.
رهان بائس على صحوة لن تأتي
من يظن أن الأحداثَ الأخيرةَ في حضرموت ستوقظُ ضمائرَ بعض القوى (الإخوان) وغيرهم، فهو يكرّرُ الوهمَ ذاتَه منذ سنوات طويلة؛ فهذه القوى لا تجهل أنها على الطريق الخطأ، ولا تحتاج الأحداث لتذكرها؛ لأنها تعرف منذ اللحظة الأولى من يرسم لها الخطوط، ولصالح من تتحَرّك، وما هي حدود الدور الذي أُعطي لها.
الوهم الحقيقي هو الاعتقاد بأن التغيراتِ الميدانيةَ كَفيلةٌ بإعادة تشكيل ضمير سياسي بُنيَ أصلًا على الارتباط لا على الانتماء.
المعادلة العميقة للمشهد.. أدواتٌ تتحَرّك ومشغِّل لا يتغير
جوهر المشهد اليمني لا يكمن في تبدل السيطرة على معسكر، أَو انتقال نفوذ من منطقة إلى أُخرى؛ فطالما أن المشغِّل واحد، والقرار يأتي من الخارج، فإن تغيُّرَ الأدوات لن يغير جوهر اللعبة.
هذه القوى تجتمعُ حين يُراد لها أن تجتمع، وتتشتَّت حين تكون مصلحة المشغل في التشتت.
لا الثابت وطني ولا المتغير وطني؛ الثابت هو الأجندة، والمتغير هو شكل الأدَاة.
حضرموت.. البوابة التي يتجدد عندها السؤال الوطني
الأحداث الأخيرة في حضرموت ليست مُجَـرّد تطورات ميدانية، بل إنها محطة تكشف مقدار هشاشة بعض القوى، وتسلُّط الضوءَ على حجم التناقُضِ بين الخطاب الوطني الذي يرفعونه والواقع السياسي الذي يتحَرّكون ضمنَه.
غير أن حضرموت ليست مُجَـرّدَ ساحة نفوذ، بل مفصلٌ استراتيجيٌّ يُعيدُ طرحَ سؤال: من يمتلك القرار؟ ومن يمتلك الحق؟ ومن يمتلك الشجاعةَ ليقول “لا”؟
دماء اليمنيين.. معيارُ الانتماء الحقيقي
من لم توقظْه أنهارُ الدماء التي سالت في اليمن، ومن لم يقرأ حجمَ الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، لن توقظْه سيطرةُ معسكر أَو انسحاب قوة أَو تبدُّل خارطة نفوذ؛ فالوطنُ ليس جغرافيا تتغيَّر خرائطها، بل قيمة تتشكل في الوعي، ومسؤولية تتجسد في الفعل.
ومن يستهين بدماء وطنه وهو يقصَفُ ليلًا نهارًا، ويحاصر برًّا وبحرًا وجوًّا، لا يمكن أن يكون شريكًا في بنائه، مهما صرخ بالشعارات أَو ادَّعى الوطنية.
دور الأحرار بين الواجب والتاريخ
في هذا المشهد المعقَّد، يصبح الدورُ الحقيقي للأحرار واضحًا وجوهريًّا، وهو التحَرُّكُ الواعي المسؤول المنظم، الذي يستعيدُ الأرضَ من هؤلاء الأدوات، ويرد القرارَ إلى أصحابه الحقيقيين، عبر إعادة بناء الوعي الجمعي، وترسيخ المعنى الحقيقي للوطن وسيادته وكرامته، وإظهار أن مشروع الدولة لا يمكن أن يُبنَى بأذرعٍ تابعةٍ للخارج وهي تسعى بكل الوسائل لنهب ثروته، ولا بواجهات مُستأجرة تبحث عن الثراء والشهرة على حساب سيادة الوطن وكرامته.
في النهاية أحداث حضرموت اختبار كبير لوعي الناس وقدرتهم على التمييز بين من يخدم الوطن ومن يستثمر في ضعفه.
وما يحدُثُ اليومَ ليس معركةً على جغرافيا، بل معركةٌ على المصير والقرار.
والمستقبل لن يصنعَه من يتحَرّكون بالأوامر، بل من يمتلكون شجاعةَ الانتماء ومسؤولية الوعي.
