محمد علي لقمان في كتابه “بماذا تقدم الغربيون” ¿ (2-1)


أ- خطاب ما بعد الاستعمار
من المعلوم أن الأدب المقارن قد سعى منذ نشأته في مطلع القرن التاسع عشر إلى دراسة العلاقات الأدبية والثقافية التي تربط مختلف الشعوب والأمم بعضها ببعض. إلا أن تحقيق ذلك الهدف ظل بعيد المنال بسبب تركيز المقارنين الأوائل على الآداب والقيم والثقافات الغربية. ومن الواضح أيضا أن معظم الدارسين والباحثين الغربيين بمن فيهم المقارنون قد كرسوا في دراساتهم مركزية أوروبية غربية جعلت من بقية بقاع العالم “هوامش” تنحصر أهميتها في مساعدة المركز على إدراك هويته. وقد نجحت هذه العملية الإقصائية في تهميش العالم المستعمِر ثم “ما بعد المستعمِر”.
وإذا كان بعض الباحثين المقارنين الغربيين- مثل رينه اتيامبل- قد دعا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي إلى ضرورة توسيع مجال المقارنة لتشمل آداب العالم كلها لاسيما آداب العالم الثالث والآداب الآسيوية فهم في الحقيقة لم يلتفتوا حينها إلى الآثار الثقافية التي تركتها ظاهرة الاستعمار والامبريالية في النصوص التي كتبها المستعمرون والمستعمِرون. وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين تناول إدوارد سعيد (1935م-2003م) أستاذ الأدب المقارن والأدب الإنجليزي ومؤلف كتاب (الاستشراق 1978) آثار الاستعمار الغربي في الثقافات الشرقية قبل استقلالها العسكري وبعده. وفي عام 1993م نشر كتابه (الثقافة والإمبريالية) وتناول فيه مختلف العلاقات بين “المركز الغربي الحديث” وبقية أصقاع العالم الواقعة في ما وراء البحار. وإذا كان ادوارد سعيد قد سعى في كتابه الأول إلى فضح آليات الخطاب الاستشراقي وكيفية توظيفه لتبرير الاستعمار فهو في كتابه الثاني تناول أيضا بعض الأخطاء التي ارتكبتها حركات التحرر في حق شعوبها وبلدانها الأصلية. لهذا يرى كثير من الباحثين في ادوارد سعيد أحد أبرز مؤسسي دراسات ”خطاب ما بعد الاستعمار” التي مهدت لها كتابات الفرنسي المارتينيكي فرانز فانون.
ومع ذلك فنقد (أو نظرية) “ما بعد الاستعمار” لم تتبلور معالمه بشكل واضح ومستقل إلا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وذلك حينما نشر بل اشكروفت وجايث جريفش وهيلين تيفن كتاب (الإمبراطورية تكتب الرد: النظرية والتطبيق في آداب ما بعد الاستعمار 1989م). ووفقا لما كتبه المؤلفون في مقدمة هذا الكتاب “يغطي مصطلح ما بعد الاستعمار كل مجالات الثقافة المتأثرة بالعملية الاستعمارية ماضيا وحاضرا من اللحظة التي بدأت فيها تلك العملية وحتى اليوم”. لذلك فنظرية ما بعد الاستعمار (post-colonialism) تسعى إلى الربط بين تحليل الخطاب الاستعماري نفسه لمعرفة أبعاده الفكرية وتأثيره في الثقافات والآداب المحلية وبين دراسة النصوص التي كتبها المستعمِرون أنفسهم في ظل الاستعمار وفي مرحلة ما بعد الاستقلال (العسكري). ومن هذا المنطلق لا يقتصر مصطلح (أدب ما بعد الاستعمار) على الثقافة الوطنية التالية لجلاء الاستعمار عسكريا بل يغطي كل النصوص التي تأثرت بالسياق الاستعماري/الامبريالي منذ بروز الاستعمار في العصور الحديثة حتى اليوم.
ويبدو أن دراسات (أو نقد) خطاب ما بعد الاستعمار قد برزت بسبب عجز النظرية الأوروبية عن التعامل بشكل صحيح مع النصوص التي كتبت خارج المركز الأوروبي وامتداده الأمريكي ومع مصادرها الثقافية المتنوعة لاسيما أن تلك النظريات الأوروبية تنطلق من تقاليد ثقافية خاصة بها حتى وإن تلبست مسوح ” العالمية أو الكونية” ورفعت شعارات حوار الحضارات والانفتاح على الآخر.
ويختلف الباحثون حول تحديد الآداب التي يمكن إدخالها في قائمة أدب ما بعد الاستعمار. فمنهم من يرى أن آداب البلدان الإفريقية ومعظم بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية وكذلك استراليا وكندا ونيوزلندا تدخل جميعها في إطار أدب ما بعد الاستعمار. وهنالك من يضع جزءا كبيرا من أدب الولايات المتحدة الأمريكية لاسيما الذي كتبه المهاجرون الملونون ضمن هذا الإطار. فجميع تلك الآداب نهضت في خضم التجربة الاستعمارية وأكدت ذاتها من خلال احتكاك كتابها بالقوى الاستعمارية/الامبريالية ومن السعي إلى تبيان اختلافاتها عن آداب المركز. ويبدو “أن ما يقارب ثلاثة أرباع سكان العالم يعيشون اليوم في عالم حددت لهم التجربة الاستعمارية فيه نمط حياتهم ومجالات سياساتهم”.
وفي دراسة حول (أدب ونقد ما بعد الكولونيالية علامات في النقد ج54 ديسمبر 2004 ص88) يؤكد الأستاذ خالد سليمان أهمية دراسات أدب ما بعد الاستعمار بالنسبة لنا نحن العرب قائلا: “إذا كانت التجربة الاستعمارية قد تركت آثارها الحياتية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية بشكل واضح وجلي في الأمم التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية لفترة ما فإن إدراك تأثيرها في البنية العقلية لتلك الأمم ليس بمثل تلك السهولة التي نستطيع رصدها أو إدراكها في المجالات السياسية والاقتصادية. والأدب يوفر لنا الطرق الأكثر أهمية التي تعكس التأثر المستتر وقد وظفه الجانب المستعمر توظيفا ماهرا وماكرا في لغته وثقافته من أجل رسم صورة دونية وهامشية للطرف “الآخر”. ونحن العرب جزء من هذا الآخر. وقد نلنا من تلك الصورة الدونية نصيبا وافرا ليس فقط في كتب الرحلات والأسفار والشعر لكن أيضا في وسائل الثقافة والاتصال المعاصر”.
واليوم يميل الباحثون إلى تقسيم نصوص ما بعد الاستعمار إلى ثلاث مراحل مختلفة ومتشابكة في الوقت نفسه. وتتزامن المرحلة الأولى منها مع فترة الكتابة في ظل الاستعمار بلغته أو باللغة المحلية أو بإحدى لغات المهاجرين. وفي الغالب ينتمي كتاب هذه المرحلة إلى المركز الاستعماري نفسه أو إلى النخبة المتعلمة القريبة بشكل أو آخر من المستعمر (والمستوطنون والرحالة والسياح والموظفون الاستعماريون والدبلوماسيون والجنود هم أبرز كتاب تلك المرحلة). وهناك كثير من النصوص التي تدخل في إطار هذا الأدب وتتعلق بجنوب اليمن وكتبتها أسماء مشهورة مثل فريا ستارك وانجرامس وبول نيزان ودي جوبينو وبليفير وفان دن ميولن وماكنتوش وجافين ووترفيلد والألماني هانس هيلفريتس…إلخ. ومن المؤكد أن تلك النصوص التي تركز على الوصف المفصل للمشاهد الغرائبية والأزياء والعادات واللغات المحلية لم تسع لتشكيل أساس لثقافة وطنية أو التكامل مع الثقافة التي كانت قائمة في هذه البلدان قبل الغزو الاستعماري. وهذا ما تبين لنا بجلاء خلال قراءتنا للنصوص التي كتبها الرحالة الفرنسيون حول عدن بين سنة 1855 وسنة 1950م أو للنصوص التي كتبتها فريا ستارك عن حضرموت في الثلاثينيات من القرن العشرين. فقد ظلت تلك النصوص على الرغم من ادعائها الموضوعية والعلمية منحازة للمركز ومتماهية مع الخطاب الاستعماري الذي تنتمي إليه أصلا.
أما المرحلة الثانية فتغطي الفترة التي تمكـن خلالها عدد من الكتـاب المحليين الذين صاروا ينتمون إلى طبقة خاصة متميزة تتمتع بقدر من التعليم والثقافة ووقت الفراغ اللازم للكتابة أن ينتجوا “بترخيص أو بدون ترخيص استعماري” نصوصا بلغتهم أو بلغة المستعمر. ومما يميز نصوص تلك المرحلة تصويرها لقسوة النظام القائم ومظاهر الظلم الاجتماعي وكذلك اهتمامها بإبراز الثقافات المحلية وتراثها الغني. ومع ذلك من الصعب رصد خطاب مناهض للاستعمار في غالبية تلك النصوص إذ أن المؤسسة الثقافية في المستعمرات ظلت – في معظم الأحيان- تحت سيطرة الطبقة الاستعمارية الحاكمة التي يعود لها وحدها – في الغالب- السماح بنشر الأعمال المكتوبة وتوزيعها. ويمكن أن نتأكد من هذا الأمر – فيما يخص مستعمرة عدن- من خلال قراءتنا للمقالات والدراسات والنصوص الأدبية التي نشرتها أول صحيفة مهمة صدرت باللغة العربية في عدن سنة 1940م.
وقد كتب د. علوي عبد الله طاهر في مؤلفه (لطفي أمان: دراسة وتاريخ ص 26) أن “فتاة الجزيرة كانت تنشر أخبار القادة والمسؤولين الإنجليز باستمرار وبعض الإصلاحات كبناء مدرسة أو إصلاح طريق والحفلات واللقاءات وتتبع أخبار السلاطين وزياراتهم لعدن أو مغادرتهم لها. ولم تكن بقادرة على أن تنهج خطا مستقلا لأن الاستعمار لم يكن حينها ليسمح بإصدار صحيفة خاصة في المستعمرة إن لم تسلك الخط العام الذي يرسمه هو لها. وكان رئيس تحريرها محمد علي لقمان من الناحية الثقافية قائد حركة إصلاحية أدبية بعيدة عن العمل الوطني. وكان يدعو على صفحات جريدته إلى نشر التعليم وتحرير المرأة من الحجاب وإعطائها حقها من التعليم كما طالب ببناء المستشفيات في عدن. وبحكم ثقافته وتعليمه في الهند كان يريد أن يجعل من المجتمع العربي جزءا من المجتمع البريطاني”.
ومن اللافت أن بعض النقاد الذين تصدوا لقصائد لطفي جعفر أمان التي نشرها في تلك المرحلة – أي في ظل وجود الاستعمار في عدن- قد وظـفوا عدم مقارعة الشاعر للاستعمار في تلك القصائد للتشكيك في وطنيته. ففي مجلة (المعارف يونيو 1961) البيروتية نشر سعيد الشيباني دراسة بعنوان (نظرة في الشعر اليمني الحديث) أشار فيها إلى أن لطفي جعفر أمان يفتقد الروح النضالية “بحكم موت الدافع الوطني في أعماقه”. ويؤكد د. عبد المطلب جبر أن محمد الزرقة كتب في سنة 1963 ما يشبه هذا التناول في مجلة (الآداب) البيروتية. ويبدو أن لطفي أمان أراد بعد جلاء الاستعمار أن يعطي لبعض قصائد تلك المرحلة نفسا ثوريا من خلال تغيير عناوينها أو إضافة بعض الإشارات في مفتتحها. فقصيدة (غريب) نشرت في ديوان (الدرب الأخضرطــــ1 دار المعارف مصر 1962 ص69) واحتوت التقديم الآتي:(طريق الرحيل إلى كينيا سنة 1951). وفي الطبعة الثانية من الديوان التي نشرها الشاعر في المكتب التجاري – بيروت 1970 تحولت عبارة التقديم للقصيدة إلى (في طريق الهجرة إلى كينيا عام 1951 : بعد أن طردني الاستعمار من وطني يوماٍ .. ثم طردت الاستعمار من وطني إلى الأبد). وكان لطفي أمان قد نشر هذه القصيدة سنة 1953 في مجلة (الأديب) البيروتية بعنوان (شريد).
وتتزامن المرحلة الثالثة من خطاب ما بعد الاستعمار مع يقظة الشعوب المستعمِرة وتطور الوعي الوطني فيها وطرد المستعمر عسكريا من أراضيها. وتعكس هذه المرحلة نمو الآداب “المستقلة” التي وضعت حداٍ للهيمنة الاستعمارية (المباشرة على الأقل) على المؤسسات الثقافية بشكل عام. وفي الحقيقة تباينت ردود الفعل التي عبرت عنها تلك الآداب تجاه الغرب. فبعضها أكد رفضه التام للخطاب الاستعماري القائم عادة على التمركز الغربي أي رؤية أوروبا على أنها مركز العالم. ومن الواضح أن رغبة تلك الآداب في التخلص من الآثار الثقافية للاستعمار الغربي وتأكيد اختلافها عن آداب “المركز” قد دفعتها في بعض من الأحيان إلى تبني المنطلقات الثقافية السائدة في أقطار المعسكر الاشتراكي حينذاك (مثل مذهب الواقعية الاشتراكية).
وفي المقابل حاولت بعض نصوص (خطاب) ما بعد الاستقلال التعايش مع المركزية الغربية واحتفظت بقنوات اتصال مع الآخر الغربي الذي جاء وذهب بعد أن ترك بصمات لا تمحى في طريقة تفكير الشعوب المستعمرة. ويرى كتاب تلك النصوص أن مقاومة المركزية الغربية ينبغي أن تكون حضارية وسلمية وتسمح بالحوار الثقافي والحضاري إذ أنه من المستحيل أن يستطيع أي شعب أن يعيش اليوم بمعزل عن الغرب الذي لم يتردد هو نفسه من الاستفادة من المعطيات الثقافية المتجددة لدى الشعوب المتحررة فـ “الهامش” أصبح اليوم مصدراٍ غنيا للطاقة المبدعة في الغرب نفسه. ويرى روبرت يونج في كتابه الصادر في عام 2001 بعنوان (ما بعد الاستعمار: مقدمة تاريخية) أن حركات الاستقلال عن الاستعمار الأوربي قد فضحت الآثار السلبية للاستعمار الأوربي في المجتمعات الشرقية وقدمت نقدا للثقافة الغربية من منطلقات أبناء الشرق المستعمر أنفسهم وهي بذلك أسهمت في بلورة مراجعة للذات الغربية في علاقتها بمستعمراتها السابقة في الشرق. وقد شارك في تلك المراجعة كثير من أبناء الشرق الذين هاجروا لظروف مختلفة إلى الغرب بعد الحرب العالمية الثانية واستقروا في أوربا وأمريكا ورفضوا – مع ذلك- الذوبان في المجتمعات الغربية لإيمانهم بأن دورهم التاريخي يكمن في مساعدة حركات الاستقلال الوطنية والشعوب المستقلة حديثا في التخلص من آثار الاستعمار وكذلك إيصال وجهة نظر الشرق إلى الشعوب الغربية. ومن بين أبرز الأسماء الشرقية التي أسهمت في تلك المراجعة النقدية للخطاب الاستعماري الغربي نجد الفلسطيني إدوارد سعيد والهنديين هومي ك. بابا وجاياتري سبيفاك.
ب- خطاب ما بعد الاستعمار في كتاب (بماذا تقدم الغربيون) لمحمد علي لقمان
في سنة 1898 أي قبل عام واحد من وصول التاجر الفرنسي أنتونين بس إلى عدن ولد في هذه المدينة محمد علي لقمان الذي سيصبح أحد أبرز رواد حركة التنوير في اليمن. ومنذ صباه عمل محمد علي لقمان في شركات التاجر الفرنسي أنتونين بس (Antonin Besse) وأصبح مسئولا عن تدبير أمور شئون بيوته المتعددة في عدن. وقد شجعه البس على تلقي أكبر قدر من التعليم في عدن ثم في الهند التي حصل منها على شهادة جامعية في الحقوق. وبما أن البس كان شديد الثقة بمحمد علي فقد أوكل إليه عددا من المهام الأخرى من بينها الإشراف على فرع شركته في بربرة بالصومال التي حرر فيها كتابه (بماذا تقدم الغربيون¿) سنة 1933م .

قد يعجبك ايضا