تنبع خطورة التصهين اللاشعوري من كونه خفياً ومستتراً إلى حدٍّ لا يدرك معه المصابون به حقيقة موقفهم، إذ يعيشون وهم العداء للصهيونية بينما هم في الواقع يتحركون في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.
هذا التناقض بين الشعور والممارسة جعل من التصهين اللاشعوري أداةً أكثر فاعلية في خدمة المشروع الصهيوني من التصهين الشعوري نفسه، لأن الأول يُمارس تحت لافتة المقاومة ويُقدَّم على أنه دفاع عن الدين أو الأمة, وهكذا نجحت امريكا في توسيع رقعة التصهين اللاشعوري داخل المجتمعات الإسلامية، بالتوازي مع توسيع رقعة عدوانها العسكري والسياسي عليها.
عندما قررت امريكا احتلال العراق عام 2002، كانت تدرك تمامًا افتقارها لأي شرعية قانونية أو أخلاقية، وأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى نشوء مقاومة عراقية مسلحة تحظى بتأييدٍ واسعٍ على المستويين العربي والدولي. كما كانت تدرك وجود دولٍ مجاورة كإيران وسوريا مستعدة لتقديم الدعم العسكري واللوجستي لتلك المقاومة.
ومع ذلك، مضت أمريكا في مشروعها وهي واثقة من قدرتها على احتواء تبعاته، مستندةً إلى ظاهرة التصهين اللاشعوري داخل أوساط الجماعات الإسلامية، والتي كانت كفيلة بـ إعادة توجيه حالة الغضب الشعبي الناتجة عن احتلال العراق نحو خصوم أمريكا في المنطقة بدلًا من مواجهتها هي.
لذلك، لم يكن غريبًا أن تجتمع في قطر مفارقة لافتة؛ فهي من جهة القاعدة العسكرية الرئيسية التي انطلق منها العدوان الأمريكي على العراق عبر القواعد المنتشرة على أراضيها، ومن جهة أخرى المنبر الإعلامي للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي من خلال قناة الجزيرة, تلك الازدواجية لم تكن صدفة، بل جزءًا من استراتيجية إدارة الوعي وإعادة توجيهه.
يومها كنا نشاهد الضباط الأمريكيين يديرون العمليات العسكرية لاحتلال العراق من الأراضي القطرية، ونرى الطائرات والسفن الحربية التي كانت تقصف العراق وهي تنطلق من مطارات قطر وموانئها, وفي نفس الوقت كنا نشاهد يوسف القرضاوي، وعلى بُعد خطوات قليلة من قاعدة العديد الأمريكية، يظهر على قناة الجزيرة بصفته “الأب الروحي للمقاومة العراقية”، لا ليدعو الأمة إلى مواجهة الاحتلال الأمريكي، بل ليُحرّضها ضد الشيعة المسحوقين من نظام صدام، بحجة انهم من يتحمل مسؤلية احتلال العراق.
وهكذا نجحت أمريكا في تحويل المواجهة المحتملة معها إلى صراعٍ داخلي دموي من العنف والعنف المضاد، استنزف طاقات الأمة. ولم تمضِ سوى بضع سنوات حتى شاهدناه، ومن على نفس المنبر الإعلامي، يناشد أمريكا صراحةً بالتدخل العسكري في سوريا لإسقاط نظام بشار الأسد، مما اغرق الامة في صراعٍ دموي جديد.
رغم أن قناة الجزيرة كانت هي من رمَّزت “أبو مصعب الزرقاوي” وقدّمته كأحد رموز المقاومة العراقية، فإن قيامه بذبح المواطن الأمريكي المدني على الهواء مباشرة، وما رافقه من ترويج إعلامي لتلك الجريمة بوصفها عملًا بطوليًا، لم يدفع الولايات المتحدة إلى حظر القناة أو تقييد بثها على الأقمار الصناعية، كما فعلت مع قنواتٍ أخرى أقل تأثيرًا.
ذلك لأن ذلك الفصل من الخطة الأمريكية كان ضروريًا لتشويه صورة المقاومة العراقية أمام الرأي العام العالمي، ولا سيما في الغرب، وتجريدها من أي تعاطفٍ شعبي أو أخلاقي, خصوصا بعد فشل امريكا في إقناع العالم بوجود علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، وجدت في هذا المشهد الدموي وسيلة متأخرة لشرعنة احتلالها للعراق بأثرٍ رجعي، من خلال الربط الذهني بين المقاومة والإرهاب.
في بداية الاحتلال، كان هناك شبهُ إجماعٍ بين النخب السياسية والفكرية في الغرب على تأييد حق الشعب العراقي في المقاومة ضد الغزو الأمريكي، بل إن بعض رموز اليسار الأوروبي أعلنوا استعدادهم للذهاب إلى العراق والقتال إلى جانب المقاومة العراقية.
غير أن مشاهد قطع الرؤوس، واستهداف المصلّين في المساجد والمدنيين في الأسواق بالمفخخات والأحزمة الناسفة، أحدثت تحولًا جذريًا في المزاج العالمي، إذ انقلبت الموجة المتعاطفة مع المقاومة إلى موجة تأييدٍ ضمني للوجود الأمريكي، بعدما نجحت تلك الأفعال في تشويه صورة المقاومة وتشويه الإسلام ذاته في الوعي الغربي.
وهكذا، تحقّق الهدف الأمريكي غير المعلن: إفراغ المقاومة من بعدها الأخلاقي وتحويلها من حركة تحرّر مشروعة إلى حركة عنفٍ أعمى تبرر الاحتلال بدلًا من مقاومته.
بالمحصلة، فإن التصهين اللاشعوري المستشري في أوساط الجماعات الإسلامية قد خدم المشروع الصهيوني العالمي أكثر مما خدمه التصهين الشعوري لدى بعض الأنظمة العربية، كالنظام السعودي والإماراتي, ليس على مستوى المنطقة فحسب بل وعلى مستوى العالم متسببا فيما بات يعرف بظاهرة الاسلام فوبيا.
وهذا لا يعني بالضرورة أن الجماعات الإسلامية كانت صهيونية النشأة أو الارتباط، بل إنّها تحولت لبيئةً خصبة لانتشار التصهين اللاشعوري نتيجة تأثرها المباشر بالعقيدة الوهابية التي نشأت في بيئةٍ سياسية رعَتها بريطانيا خلال مرحلة إعادة تشكيل الخارطة الدينية والسياسية في الجزيرة العربية.
لقد لعب عدد من الضباط والمستشارين البريطانيين أدوارًا بارزة في تلك المرحلة، وكان لهم تأثير مباشر على مسار التحالفات والنشأة السياسية للكيان السعودي، من أمثال: الكابتن وليم شكسبير الذي قُتل خلال إحدى الحملات الوهابية ضد آل الرشيد، والسير بيرسي كوكس الذي أشرف على ترتيبات الاعتراف البريطاني بسلطة عبدالعزيز آل سعود عام 1915، وجون فيلبي المستشار البريطاني المقرب من الملك عبدالعزيز، إلى جانب آخرين كـ الكولونيل هاملتون وجيرالد دي غوري.
هذه المرحلة التاريخية شكّلت البيئة الأيديولوجية الأولى التي مهّدت لتغذية التصهين اللاشعوري في الوعي الإسلامي الحديث، من خلال خلط مفاهيم الولاء والبراء وتوجيه العداء “بعيدًا عن القوى الاستعمارية” نحو الخصوم الداخليين، وهو ما ترك أثره العميق في فكر كثير من الجماعات الإسلامية لاحقًا.
إنّ التصهين اللاشعوري يُعدّ إحدى أخطر صور النفاق المرضي التي حذّر منها القرآن الكريم، لأنّ المصاب بها يفقد الإحساس بخطورة أفعاله. وإنعدام الشعور لا يعفي صاحبه من المسؤولية ولا من العقاب، لأنّ فقدان البصيرة لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة طبيعية لفساد القلب وخداع النفس, وقد وصف القرآن هذه الحالة بدقة في مطلع سورة البقرة (الآيات 7–16).
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)