اليمن مصدر القلق… وغزة على الطريقة اللبنانية!

ناصر قنديل

 

 

تفيد القراءة المتأنية للتغييرات التي شهدتها البنية الديمغرافية والاجتماعية والثقافية في كيان الاحتلال بانتقال الديناميكية السياسية من المستوطنين الآتين سكانياً وثقافياً من المنشأ الغربي، إلى مَن يسمّون أنفسهم بالإسرائيليين من أصول إسرائيلية، وهم في غالبيتهم من أصول شرقية يمثلها تكتل الليكود وجذور عالم ثالثية يمثلها الحريديم والمتطرفون الدينيون والقوميون بقيادة بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير، وانتقال مركز الثقل الجغرافي السياسي والايديولوجي من الساحل إلى الضفة الغربية، ما يعني السقوط النهائي لفكرة الدولة الفلسطينية ومبدأ تسوية الصراع حول فلسطين بالطرق التفاوضية والسياسية، وجعل الصراع مع الفلسطينيين صراع وجود لا حدود من وجهة النظر الإسرائيلية الجديدة.
هذا التحوّل السابق لطوفان الأقصى زاد قوة بعد الطوفان، بحيث صار مفهوم الأمن القومي للكيان، يقوم على مبدأ سقوط التساكن مع مقاومات مسلحة على الحدود، وتبلور رؤية استراتيجية تقول بأن لا قيمة لمعاهدات السلام ولا لاتفاقات التطبيع، إلا مع الدول البعيدة عن الحدود، باعتبارها أرباحاً مجانية تعزز معادلة للفصل بين الاعتراف العربي بمكانة إسرائيل المتفوقة، وبين أي شرط أو مطلب متصل بحل القضية الفلسطينية، أما مع دول الطوق المحيطة بفلسطين، بما فيها مصر والأردن، ولو كانت أمورهما مؤجلة حالياً، فإن الأولوية للأمن المعزز بعقيدة “إسرائيل” الكبرى، خصوصاً في غزة والضفة ولبنان وسورية، حيث يبقى الأهم هو التمدّد الجغرافي والترتيبات الأمنية التي تمنح “إسرائيل” امتيازات داخل جغرافيا الجوار وداخل بنية الدولة الأمنية والعسكرية، كما هو الحال مع السلطة الفلسطينية وما تطلبه حكومة بنيامين نتنياهو من الحكومة السورية وفي غزة وما تسعى إليه ضمناً في لبنان.
“إسرائيل” الجديدة وجدت مع بنيامين نتنياهو ضالتها، فهو جسر الوصل مع صورة “إسرائيل” المقبولة أمريكياً، والقادر على الحصول على التمويل والتسليح اللازمين لخوض الحروب، وهو الشخصية المؤهلة لتقديم قيادة شعبوية قادرة على ضمان البقاء في الحكم، وهو الشخصية التي تستطيع الإمساك بأدوات السلطة في الكنيست والحكومة والجيش والشاباك والقضاء، وما دام ينجح بضمان الحماية الأمريكية وضخ المال والسلاح، ولو مع بعض الانتقادات الأمريكية، فلا مشكلة بالتعايش مع انقلاب الرأي العام الغربي ضد “إسرائيل”، التي لا تضم قواها الجديدة لتقديمها نموذجاً غربياً في الشرق، بعد أن أصبحت بالنسبة لهم دولة يهودية لا مجرد وطن قومي لليهود، كما كان يريدها المؤسسون.
“إسرائيل” الجديدة تربط حربها الكبرى مع إيران بموازين قوى تحتاج شراكة أمريكية، وهي تستطيع انتظار الظرف المناسب أو محاولة إنتاجه، لكنها لا ترى فرصة لتسوية راهنة في لبنان وسوريا وفلسطين، بل حروب مستمرة، لأن هذه الحروب المستمرة هي أدوات التهجير للسكان من الجغرافيا الحدودية في جنوب سوريا وجنوب لبنان، كما هي خريطة طريق لاستعادة التوازن السكانيّ لصالح اليهود بين سكان فلسطين التاريخيّة، بعد تهجير أعداد ضخمة من الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية والقدس، وبقدر ما تبدو هذه الحروب المستمرة ضرورية، يبدو أن استمرارها على وتيرة منخفضة ضروري أيضاً، لأن الحروب الكبرى قد تستدرج تصعيداً يهدّد أمن عمق الكيان، كما حدث في أيام حرب الـ 66 يوماً مع لبنان قبل وقف إطلاق النار، بعكس ما يجري منذ وقف إطلاق النار ومواصلة جيش الاحتلال لحرب الوتيرة المنخفضة، وما يجري مثله في سوريا والضفة.
غزة هي العقدة، حيث الحرب العالية الوتيرة ضرورة لمنع حلول تتيح بقاء المقاومة وسلاحها، وتبقي السكان وكثافتهم العالية في قطاع غزة، لكن هذه الحرب تعجز عن هزيمة المقاومة، وتعجز عن تأليب السكان عليها، حيث التهجير هدف معلن وإلقاء المقاومة سلاحها مشروع نكبة ثانية لا يغامر الفلسطينيون باختبارها، وهذه الحرب تتسبّب بانفجار غضب عالميّ بدأت أمريكا نفسها، والرئيس دونالد ترامب نفسه، يضيقون ذرعاً بها، حيث هول التجويع والإبادة يحاصر مؤيدي “إسرائيل” في الكونجرس عشية سنة انتخابية، لكن الأشد خطراً هو أن هذه الحرب العالية الوتيرة، تستجلب شراكة يمنية تشكل وحدها مصدر الدعم الحربي الفعال لغزة ومقاومتها، وينتج عنها استنهاض الجبهة الداخلية الإسرائيلية للضغط من أجل وقف الحرب.
مبادرة الرئيس ترامب لوقف حرب غزة، تهدف لتمهيد الانتقال من حرب غزة على وتيرة عالية، إلى حرب على وتيرة منخفضة، تشبه تماماً ما جرى على جبهة لبنان مع اتفاق وقف إطلاق النار، فتهدأ الضغوط الأمريكيةالشعبية ضد “إسرائيل” عشية الانتخابات الأمريكية، وتتوقف جبهة اليمن مع إعلان وقف إطلاق النار، وتستمر الحرب في غزة والضفة ولبنان وسوريا على وتيرة واحدة، متوسطة إلى منخفضة، وربما تؤجل الانتخابات الإسرائيلية العام المقبل لدواعٍ أمنية، للعودة بعد الانتخابات الأمريكية للبحث بفرضية حرب على إيران، وخلال هذا الوقت بناء بنوك الأهداف في لبنان وغزة واليمن والعراق وإيران، وتصنيع فتن وحروب أهليّة والدفع نحو الفوضى حيث أمكن.
* رئيس تحرير جريدة البناء اللبنانية

قد يعجبك ايضا