التوافقات الجزئية الملاذ الأخير في تسوية الأفق المسدود:

فشل المفاوضات مع الأكراد والدروز .. هل يعيد سوريا إلى مستنقع الحرب ؟

 

 

حتى اليوم لم تحقق جهود المفاوضات التي يديرها وسطاء دوليون بين السلطة السورية الانتقالية وقيادات قوات سوريا الديموقراطية «قسد» من جهة والسلطة الانتقالية والمجلس العسكري للدروز في السويداء من جهة ثانية، أي تقدم، فيما تواجه الأزمة مع الفصيلين المطالبين بالإدارة الذاتية ونظام الحكم اللا مركزي جمودا خطيرا ينذر بانهيار المفاوضات، بما يجعل احتمالات انزلاق سوريا إلى حرب أهلية أكبر من احتمال توجهها نحو دستور جديد وانتخابات.

تحليل / أبو بكر عبدالله

لم تمض سوى أشهر قليلة من الأزمة العميقة بين السلطات الانتقالية السورية والأكراد السوريين المطالبين بنظام حكم لا مركزي يمنحهم حق إدارة مناطقهم مع بقاء جيش «قسد» والاحتفاظ بالسلاح، حتى توسعت خارطة المناطق المطالبة بالحكم الذاتي بانضمام محافظة السويداء الجنوبية، حيث يقطن غالبية الدروز بعد مواجهات مسلحة بينهم وقوات الجيش التابع للسلطة الانتقالية، أعقبها إعلان المجلس العسكري الدرزي التأسيس لإدارة ذاتية.
ورغم المفاوضات التي تديرها أطراف دولية للوساطة بين الأكراد والدروز والسلطة الانتقالية خلال الأشهر الماضية، إلا أنها لم تفلح في التوصل إلى توافقات تلبي مطالب الأقليات العرقية والطائفة في نظام حكم لا مركزي يمنحها مشاركة حقيقية في نظام حكم ديموقراطي لا مركزي يضمن حقوقا دستورية وقانونية للجميع تحت مظلة دستور جديد ونظام حكم ديموقراطي متوافق عليه من جميع الأطراف.
والانسداد الحاصل في المفاوضات جاء نتيجة مخاوف واسعة لدى الأقليات الأثنية والطائفية من اعتماد السلطة الانتقالية الجديدة القوة الغاشمة وسيلة لفرض السيطرة على المناطق السورية والتي سجلت مواجهات ومجازر وحشية في مناطق العلويين والدروز والأكراد وغيرها من المناطق أدت إلى ظهور حركات مسلحة مناهضة للسلطة الجديدة.
منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة شهدت انعطافات خطيرة في حروب تخللتها مجازر وجرائم إبادة تعرضت لها بعض الأقليات الدينية كالعلوين في الساحل السوري والدروز في محافظة السويداء، وتوقفت بفعل الضغوط الدولية التي قادت هدناً هشة ومفاوضات استطاعت لجم فوهات البنادق، لكنها أبقت المشهد السياسي والأمني مفتوحا على كل الاحتمالات.
وحالة عدم الاستقرار التي اكتنفت المشهد السوري، استمرت على خارطة سياسية وأمنية ملتهبة، تتصدرها مطالب للأكراد المسيطرين على مناطق الشمال الشرقي لسوريا والدروز المسيطرين على السويداء في الجنوب، برفض توجهات السلطة الانتقالية بالاندماج وتسليم السلاح والدعوة لتأسيس نظام حكم لا مركزي يلبي مطالب الأطياف السورية ويقلل من قبضة دمشق المنفردة على الحكم، وهي المطالب التي اعتبرتها السلطات لانتقالية مخططات لتقسيم الدولة السورية.
وتبدو السلطات الانتقالية بقيادة أحمد الشرع وهو قيادي سابق في جبهة النصرة وعرف باسم « أبو محمد الجولاني» في وضع لا يحسد عليه في ظل الضغوط الداخلية والخارجية على حكومته بإنهاء مظاهر التوتر المسلح وتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية بتوافق اثني وطائفي وأكثر من ذلك الضغوط التي تمارسها أنقرة لحسم ملفي الاكراد والدروز بأي وسيلة لضمان حماية الأمن القومي التركي.
مفاوضات متعثرة
لم يكن خافيا الدور الذي لعبته أنقرة في دعم انقلاب الفصائل المسلحة على نظام بشار الأسد ودورها المحوري بتمكينها من الحكم وبناء علاقات دبلوماسية مع المجتمع الدولي وهو الدور الذي أملت فيه أنقرة أن تحصد في مقابله القضاء على النفوذ السياسي والعسكري للأكراد، قبل أن تتفاجأ بحالة استعصاء عتيدة للأكراد تزامنت مع ظهور كيانات مسلحة أخرى مناهضة لدمشق مدعومة من أطراف إقليمية ودولية.
وأكثر التطورات التي خلطت الأوراق التركية هي تشكيل مجلس عسكري للدروز في محافظة السويداء والتي كانت مسرحا لمواجهات مسلحة عنيفة اشتعلت أثناء محاولة قوات السلطة الانتقالي السيطرة عليها وتخللتها جرائم حرب أسفرت عن إعلان المجلس العسكري إدارة ذاتية واستقلاليته بحكم الأمر الواقع، ورفضه الاندماج مع الحكومة السورية.
هذا الإعلان الذي جاء بعد أيام من معارك طاحنة شهدتها محافظة السويداء، وضع الجميع في حالة تأهب حذر، بما في ذلك السلطة الانتقالية المدعومة من تركيا والتي وجدت نفسها في مواجهة تحالفات جديدة زادت من صعوبة مهمتها في فرض السيطرة الكاملة على كل مناطق الدولة السورية وأقلياتها الأثنية والطائفية.
والتحالف غير المعلن الذي ظهر مؤخرا بين قوات «قسد» وقوات المجلس العسكري الدرزي، يمكن اعتباره أحد تجليات أزمة عميقة تتفاعل تحت الرماد، هي من ساهمت في رفع الفصلين شعارا موحدا يطالب بحكم لا مركزي كامل الصلاحيات يمنحهما الحق في إدارة مناطقها والمشاركة في الحكم في ظل ضمانات دستورية وقانونية وسياسية وكذلك ضمانات عسكرية وأمنية تبقي على قواتهما ككتل عسكرية واحدة تحت مظلة الدولة السورية.
هذا التحالف نشأ على خلفية التعثر في تنفذ بنود اتفاق مارس 2025م الموقع بين السلطة الانتقالية و»قسد» نتيجة الخلاف حول البندين (3 ، 4) المتعلقين بالحقوق الدستورية للأكراد ودمج المؤسسات العسكرية، حيث رفضت دمشق الإبقاء على «قسد» ككيان مستقل وطالبت بدمج مقاتليها في الجيش السوري على قاعدة «جيش واحد، دولة واحدة» بينما تصر «قسد» على قبولها الانضمام للدولة السورية تحت مظلة نظام لا مركزي كامل الصلاحيات مع الاحتفاظ بقواتها وسلاحها.
وتعمق الخلاف حول البندين، أدى إلى فشل المفاوضات المباشرة التي جرت في دمشق في يوليو الماضي، رغم الوساطة الأمريكية التي قادها المبعوث الأمريكي إلى سويا «توم باراك»، كما أدى إلى تأجيل جولات مفاوضات باريس التي كان مقررا عقدها الشهر الماضي وتم تأجلها إلى أغسطس الجاري برعاية فرنسية- أمريكية خاصة بعد أحداث السويداء الدامية وفشل السلطة الانتقالية في التحكم بالقوات العسكرية التي بدت منفلتة وخارجة عن السيطرة.
ونموذج التعثر الذي حصل في المفاوضات مع الأكراد، تكرر في مفاوضات أخرى رعتها وساطات غربية بين الحكومة الانتقالية وقيادات الدروز، وتعثرت بخلافات عميقة وحالة انعدام ثقة، أدت إلى إعلان الدروز الشهر الماضي إدارة ذاتية استجابة لما سموه «غياب الضمانات الدستورية»، فضلا عن إعلانهم شروطاً للاندماج في الجيش السوري تقضي تشكيل حكومة تكنوقراط لا تحكمها الانتماءات الطائفية.
حسابات عميقة
المشهد الأمني في سوريا اليوم يبدو شديد التوتر، في ظل رفض دمشق أي صيغة حكم تضعف النظام المركزي، ورفضها بقاء قوات سوريا الديموقراطية «قسد» أو قوات المجلس العسكري الدرزي ككيانات عسكرية مستقلة واصرارها على إدارة المناطق الحدودية ومنابع الطاقة، ودمج مقاتلي الفصيلين في الجيش السوري تحت شعار «جيش واحد، دولة واحدة»، مع تسليم كامل للسلاح.
وتواجه هذه الصيغة برفض كامل من جانب الأكراد المصرين على الحفاظ على هياكلهم العسكرية ككتلة متماسكة ضمن الجيش السوري والتمركز في مناطقهم الجغرافية، مع المطالبة بإجراءات قانونية لإقامة نظام لامركزي يضمن حقوق الأكراد وتأجيل أي نقاش حول تسليم المعابر الحدودية مع تركيا والعراق وحقول النفط لحين التوافق على ضمانات سياسية وأمنية.
هذه المطالب تحولت مؤخرا إلى خطوط حمراء بالنسبة للكرد وخصوصا بعد أعمال العنف الوحشية التي تعرض لها الدروز في السويداء، وسط مخاوف من أن تواجه مناطق الأكراد المصير نفسه في حال قبولها بتسليم السلاح.
استنادا إلى ذلك، تذهب التقديرات إلى أن الاحتقانات الداخلية في سوريا اليوم لن تقود إلى دولة موحدة كما كان حالها في السابق، في ظل التصور الذي تتمسك به القوى الخارجة عن نفوذ السلطة الانتقالية والقاضي بقيام دولة ديموقراطية لا مركزية، تستطيع معالجة كافة الإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يصعب حلها دون نظام لا مركزي كامل الصلاحيات تحت مظلة دولة تستوعب جميع الأطياف وتضمن لها حقوقا قانونية ودستورية وسياسية وثقافية.
وهذا الأمر صار خيارا لدى الأكراد والدروز، فأكراد سوريا يشعرون أن تركيا تتربص بهم الدوائر عبر السلطة الانتقالية التي طالما تحدث قادتها عن خطط لنزع سلاحهم وعدم السماح باستخدام الأراضي السورية لتهديد دول الجوار وهي التوجهات التي تتساوق مع التوجهات التركية في القضاء على تهديد الأكراد السوريين وعدم تكرار تجربة أكراد العراق.
الحال مع الدروز الذين يشعرون أنهم مستهدفون من قوات الجيش التابع للسلطة الانتقالية والذي تحكمه منطلقات طائفية تجعل من الدروز عدوهم اللدود، وهي المآخذ التي انعكست تاليا على مطالبهم في المفاوضات الأخيرة برفض دخول قوات السلطة الانتقالية إلى مناطقهم ومطالبتهم بنظام حكم ديموقراطي لا مركزي وضمانات أمنية محلية وإقليمية ودولية، قبل أن يتجهوا لإعلان حكم ذاتي في مناطقهم على شاكلة التجربة الحاصلة في مناطق الأكراد.
التوافقات الجزئية
مع اقتراب الفترة المحددة للمفاوضات بين دمشق والأكراد والدروز من خط النهاية، تتعزز فرص التصعيد العسكري، خصوصا وأن الضغوط التركية على الإدارة السورية لحل «قسد» والمجلس العسكري الدرزي ككيانات ونزع سلاحها، أصبحت اليوم مصيرية بالنسبة لأنقرة التي أعلنت استعدادها لكل السيناريوهات، بما في ذلك التدخل العسكري.
والمقاربات التي تتجاذب المشهد السوري بنجاح المفاوضات وفشلها، تضع الدولة السورية أمام سيناريوهين، الأول التوافق على بناء دولة قائمة على حكم لا مركزي يلبي كليا أو جزئيا مطالب جميع الأطياف السورية ويحقق مبدأ وحدة سوريا، والثاني فرض نظام حكم مركزي بالقوة، بما يعنيه ذلك من انقسامات وحروب قد تتحول معها سوريا إلى ساحة لصراع دولي.
هذه المقاربات شجعت مؤخرا بعض الأطراف الدولية على تبني تصورات جديدة مبنية على أساس التوافقات الجزئية عبر ضمانات دولية جزئية وتعهدات من الطرفين على تجاوز المطالب «التعجيزية»، خاصة في ملفي السلاح واللا مركزية، كون الفشل في المفاوضات قد يُعيد سوريا إلى دوامة العنف.
وخطوة كهذه ربما تُحدث اختراقا ما في الطريق شبه المسدود أمام المفاوضات، على شاكلة الدمج الجزئي للقوات، مع ضمانات دولية وتوافق على إدارة مشتركة للمعابر الحدودية وعودة مؤسسات الدولة الخدمية لمناطق الأكراد والدروز، مع بدء دمج تدريجي لقوات «قسد» والمجلس العسكري في السويداء ككتل متماسكة محدودة الصلاحيات تحت مظلة الجيش السوري.
وهذه التصورات لاقت صدى داخل سوريا ولدى بعض الوسطاء الدوليين، لكون فشل المفاوضات سيعني ذهاب السلطة الانتقالية نحو الخيار العسكري، وهو أمر سيقود إلى حرب استنزاف طويلة، سيشارك فيها حتما الجيش التركي بشن عمليات عسكرية على مناطق الأكراد، وستتسع معها رقعة الصراع بدخول أطراف إقليمية أخرى ستعمل بلا شك على تأجيج الصراع الطائفي بين العشائر العلوية والسنية.
وهنا تتعين الإشارة إلى أن أي صراع مسلح تقوده السلطة الانتقالية مع الأكراد سيتوسع بلا شك إلى مناطق الدروز، ما قد يضع تركيا الداعمة للسلطة الانتقالية السورية وإسرائيل الداعمة للدروز في مواجهة مباشرة في الأراضي السورية، وهو أمر سيعمق من حالة الاحتقان بالداخل السوري وسيثقل بلا شك السلطة الانتقالية التي ستجد نفسها عاجزة عن إتمام مهامها في صياغة دستور جديد والتحضير لانتخابات تعيد بناء النظام السياسي.
وفي كل الأحوال فإن أي سيناريو بفشل المفاوضات، سيقود مع مرور الوقت إلى اختراقات وحروب لن تصب في مصلحة الحكومة السورية المحاصرة بالتزامات دولية كثيرة وفي المقدمة منها الحفاظ على حقوق الأقليات الاثنية والدينية، وإعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية بعيدا عن النزعات الطائفية والدينية.

قد يعجبك ايضا