غزة.. بين بوصلة المقاومة وسراب التسويات

أمين الحاج

 

لم يعد السؤال في غزة عن تفاصيل الدمار، ولا عن مشاهد النزوح أو وجع الحصار، فهذه صور تكررت حتى بدت وكأنها فقدت قدرتها على إحداث الصدمة، لكن السؤال الجوهري الذي تفرضه اللحظة، ما الخيارات الفعلية المتبقية لغزة وشعبها وقواها الحية في ظل التغيرات الإقليمية والعالمية وانسداد أفق الحلول التقليدية؟.

هناك ميل متزايد، عربياً ودولياً، لاختزال الأزمة في غزة باعتبارها «كارثة إنسانية» قابلة للإدارة عبر معونات أو ترتيبات أمنية جديدة، في تجاهل متعمد لجذور المأساة وأبعادها المركبة، هذا الطرح يغفل أن جذور الأزمة تعود إلى منطق استعماري قديم جديد يقوم على الإخضاع، حيث يصر الاحتلال، مدعوماً من قوى الغرب وللأسف بعض الأنظمة العربية، على كسر نموذج المقاومة الفريد وتجريد غزة من هويتها النضالية عبر استراتيجية مركبة قوامها الحصار والتجويع، فضلاً عن القتل والتدمير الممنهج للبنية المجتمعية والمؤسساتية.

غزة ليست حالة فائضة عن الحاجة، بل هي اختبار حقيقي لقدرة شعب على الدفاع عن روايته وإرادة مقاومة تصر على الاستمرار، حتى وإن بدت محاصرة ومعزولة عن العالم. في لحظة كهذه، تظهر أصوات تدعو إلى التهدئة أو حتى الاستسلام ولكن بذكاء ودهاء، فتغلف ذلك بمنطق «الواقعية السياسية»، لكن أي واقعية هذه؟ وهل هذه الواقعية خارجة عن سياق الاحتلال؟ وهل يمكن لمقاومة أن تقايض كرامتها ووجودها مقابل وعود بإعادة الإعمار أو أخرى بفتح المعابر تحت وصاية إقليمية أو دولية؟ وبالتالي، فنحن أمام مشهد يعيد إنتاج الوصاية والهيمنة ولكن بأشكال أكثر قبولاً، وكأنها وصفة عالمية للسلام السريع والنجاة الفورية، لكنها نفس المضمون القديم تم تغليفه بشكل «عصري» يوحي بأننا أمام شيء مختلف.

إذا نظرنا إلى التاريخ القريب والبعيد، سنجد أن حركات المقاومة لا ترفع الراية البيضاء إلا اذا انفكت عرى صلتها بحاضنتها، وتحولت إلى أداة في يد عدوها، أما في غزة، فلا تزال المقاومة – رغم الأثمان الباهظة – التعبير الأعلى عن إرادة البقاء ورفض الخضوع أو الفناء، فجميع تجارب التحرر الوطني عبر التاريخ أجمعت على أن الاستسلام في ظل الاحتلال لا ينتج سلاما ولا يمنح أمنا، بل يفتح أبواب الهيمنة بكل أشكالها الثقافية والسياسية والاجتماعية، ويعيد صياغة وعي الأجيال وفق سردية أعدت بعناية من الغزاة أو وكلائهم، وقدمت على طبق من المساعدات وبناء القدرات، و”تهذيب” المناهج، ضمن سياسة طويلة الأمد من التطويع والإخضاع ونزع القدرة على الاستمرار أو البقاء.

المفارقة أن كل من يدعو اليوم إلى حلول وسط لا يقدم مسارا بديلا يضمن كرامة الناس ولا حقهم في تقرير مصيرهم، بل يسعى إلى تدوير الأزمة تحت عناوين براقة تخدم في النهاية هدف الاحتلال في تدجين غزة أو تحويلها إلى كيان وظيفي منزوع الإرادة والسيادة، فالحديث عن نزع سلاح المقاومة أو إدخال قوى أمنية جديدة ليس سوى إعادة إنتاج لاستراتيجيات الاحتلال ولكن بنكهات عربية أو غربية تهدف في النهاية إلى تحويل القطاع إلى مساحة خالية من السياسة والكرامة.

أما عن الخيارات، فبالرغم من التجويع والمقتلة الكبرى، وبرغم التضييق وعمق الانقسامات التي عصفت بالمشروع الوطني الفلسطيني، لم تغلق الأبواب بعد، فما زالت هناك إمكانية لبناء رؤية فلسطينية جديدة تعيد توحيد الفلسطينيين حول برنامج تحرري يتجاوز الانقسام، ويربط بين المقاومة السياسية والميدانية في غزة والضفة والشتات، ويبرز الحالة الفلسطينية كقضية شعب يواجه الاحتلال وليس فقط ككارثة إنسانية، ومن شان ذلك خلق مساحات ضغط جديدة، وفي هذا السياق يمكن استثمار التحولات الدولية وتصاعد الأصوات الناقدة والناقمة، أو تلك الساعية للخروج التدريجي من تحت العباءة الأمريكية، أو في إعادة بناء التحالفات واستعادة زمام المبادرة على الصعيدين الشعبي والدبلوماسي.

ما تحتاجه غزة اليوم ليس خطابا يبرر أو يدعو إلى الانكسار، بل عقلا نقديا يوازن بين الصمود في الميدان والجرأة على ابتكار مسارات مواجهة متجددة، فالمستقبل لا يصنعه من ينجر وراء وهم التسويات أو شعارات الواقعية الملغّمة، بل من يصر على أن العدالة كل لا يتجزأ، وأن الكرامة لا تقايض، وأن المقاومة هي قدر الشعوب التي ترفض الاندثار، فغزة اليوم تكتب صفحة جديدة في معركة الإرادة، وستظل خياراتها مفتوحة ما دامت جذوة الرفض مشتعلة، ولو وسط الركام.

 

* كاتب فلسطيني

قد يعجبك ايضا