تحت الحظر والنار.. صيادو غزة يُحاصرون بين البحر والموت

الثورة / متابعات

لم يكن بحر غزة يوماً صديقًا لبحارة قطاع غزة، فلسنوات طويلة يخوضون عبابه بقلوب مثقلة بالفقد والخوف من الهجمات الإسرائيلية المتكررة على قواربهم، ورغم ذلك لم يكن أمامهم من خيار سوى البحث عن رزقهم في أعماقه، حتى في أوج حرب الإبادة على غزة.

قبل شهرين، فقد الصياد زكي النجار شقيقه نتيجة إطلاق نار من الزوارق الحربية الإسرائيلية، “الجوع صعب جداً على الأطفال، والواقع لم يترك لنا خياراً آخر، واصلنا النزول للبحر ونحن نعلم أننا قد يفقد كل منا الآخر وسنواجه الموت، فلا خيار أمامنا لنطعم أسرنا”.

ويضيف: “نعود بالأسماك لكن بثمن الدم. نريد إطعام أولادنا. لذا سنستمر في العودة إلى البحر مهما كثر عدد الشهداء. لن نترك البحر، فهذه مهنتنا ولن نتخلى عنها مهما كلف الأمر”.

ويلفت الصياد النجار إلى أنهم تركوا النزول إلى البحر حتى إعلان الهدنة في يناير/ كانون الماضي، “قبلها كنا نصطاد على الشاطئ، لكن بعدما اشتد الحصار ومنع المساعدات الإنسانية لم يترك الاحتلال لنا شيئا سوى المخاطرة. حياة الصيادين لم تكن يومًا دون خسائر في الأرواح والمعدات بفعل الاحتلال”.

بيد أن هذه النافذة التي لجأ إليها قلة من الصيادين، لم تعد مفتوحة أمامهم إثر قرار جيش الاحتلال منع المواطنين في غزة بمن فيهم الصيادون من دخول البحر لأي سبب، في تصعيد جديد ضمن سياسة الحصار المشددة المفروضة على القطاع.

وأصدر المتحدث باسم جيش الاحتلال، بيانًا عبر تطبيق “تلغرام” قال فيه: “تحذير خطير إلى سكان غزة… نذكّركم بأن قيودًا أمنية صارمة فُرضت في المنطقة البحرية المحاذية للقطاع، ويُحظر الدخول إلى البحر”.

وأوضح أن التحذير يشمل الصيادين والسباحين والغواصين على امتداد الساحل الغزّي، مضيفًا أن “الدخول إلى البحر يعرض حياتكم للخطر”.

ويأتي هذا الإجراء في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، التي دخلت شهرها الـ21، وسط تدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية، حيث يُعدّ البحر مصدر رزق أساس لعشرات آلاف العائلات الفلسطينية التي تعتمد على الصيد، فضلاً عن كونه متنفسًا وحيدًا لسكان القطاع المحاصَر منذ أكثر من 18 عامًا.

ومع انعدام الوقود، وندرة معدات الصيد، واستمرار الحصار الإسرائيلي البحري والجوي والبري، يواجه الصيادون في غزة معركة يومية قاسية من أجل البقاء، كما يؤكد الصياد الشاب أحمد السوسي.

ويقول وهو يقف على شاطئ غزة حيث يختلط الملح بالبارود، بينما يعمل على تفكيك شبكة مهترئة: “إحنا بنطلع البحر بأدينا، بقارب مكسور، وموتنا صار أسهل من رزقنا”.

إخلاء متجدد للبحر

لكن الخطر ليس جديدًا على الصيادين، كما يوضح نقيب الصيادين الفلسطينيين في غزة زكريا بكر، الذي أكد في تصريح صحفي، أن المنع المتجدد للصيادين من الإبحار لمسافات محدودة لا تتعدى 700 متر فقط، لا قيمة له لأنها عمليًا لا تصلح الصيد، ومع كل محاولة لدخول البحر يتعرض الصيادون للنيران الإسرائيلية.

ويصف بكر قرار الاحتلال بإغلاق البحر بأنه جزء من استراتيجية “الإخلاء المتجدد للبحر”، مضيفا “القيود لم تغيّر شيئًا في واقع الصيد المأساوي؛ فهي من حيث المبدأ ممنوعة؛ ومن حيث التفاصيل؛ هي عملية تجويع جديدة. الاحتلال يطلق النار على ما تبقى من المراكب حتى وهي واقفة على الشاطئ”.

ويؤكد بكر أن الحظر الكامل يهدف إلى خنق القطاع بالكامل، ومنع أي محاولة – ولو بسيطة – لعمل الصيادين في البحر، “فهذه ليست مجرد قيود أمنية، بل سلاح خنق اقتصادي واجتماعي وأمني مع سبق الإصرار”.

أرقام تنطق بالكارثة

وأكد نقيب الصيادين أنه منذ اللحظات الأولى للحرب “مارست قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليات قصف ممنهجة على مراسي ومراكب الصيادين من خلال الزوارق والطائرات الحربية، ما أدى إلى تدمير نحو 95% من ممتلكات الصيادين، بما في ذلك مصانع الثلج، غرف بيع الأسماك، والحسبة الرئيسية داخل الميناء”.

وقال بكر إن هجمات جيش الاحتلال طالت جميع المراكب في مدينة غزة “ولم يتبق سوى قارب واحد تم قصفه مؤخرا”، مشيرا إلى أن أكثر من 210 شهداء من العاملين في القطاع البحري، بينهم 60 صيادًا.

وأضاف: “الاحتلال قضى بشكل كامل على قطاع الصيد وحرم أكثر من 6,000 شخص من العمل، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر على الأمن الغذائي لنحو مليوني فلسطيني في القطاع”.

ويبين بكر أن الإنتاج السمكي في غزة معدوم بعدما كان يصل إلى 3500 طن سنويًا، “فمنذ بداية الحرب لم يتحرك أي محرك داخل البحر. وما يجري هو استنزاف ممنهج لقطاع كان يُعيل آلاف العائلات”.

واعتبر نقيب الصيادين أن استهداف هذا القطاع الحيوي لا يمكن فصله عن سياسة التجويع الشاملة، قائلًا: “الاحتلال يدرك أن الصيد ليس مجرد رزق، بل مكوّن أساسي من بنية الاقتصاد المحلي، ولذلك يعمل على سحقه كليًا… هذه ليست حربًا على الصياد، بل على قدرته أن يكون حيًا”.

مصدر حيوي معدوم

وفي تقرير سابق صدر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أفادت المنظمة بأن قطاع الصيد في غزة كان يشكل قبل الحرب مصدر رزق رئيسي لنحو 6,000 شخص، بينهم 4,200 صياد مسجل، وكان يعيل قرابة 110 آلاف نسمة في المجمل.

وأوضحت المنظمة أن الصيادين كانوا يواجهون قيودا مشددة حتى قبل التصعيد الأخير، إذ كانت المناطق التي يسمح بها الصيد تقتصر على ستة أميال بحرية شمالا و15 ميلا جنوبا. أما اليوم، فأصبح الصيد يجري على بعد أمتار قليلة من الشاطئ، ما يجعل حياة الصيادين في خطر دائم.

وذكرت منظمة الفاو أن مرفأ غزة البحري، شمال وادي غزة، تعرض لأضرار جسيمة أدت إلى تدمير الغالبية العظمى من القوارب، مما فاقم أزمة الأمن الغذائي في القطاع، مبينة أن “الأسماك، التي كانت تشكل يوما مصدرا حيويا للبروتين والمغذيات الأساسية لسكان غزة، أصبحت شبه معدومة في السوق المحلي”.

قد يعجبك ايضا