غزّة .. مراكمة نقاط التحرير

د . محمد المدهون

 

 

من الاندحار عن غزة إلى زلزلة الطوفان، سارت وحدها، حافيةَ الإرادة، عزلاءَ إلا من الإيمان، تحفر الصخر وتصنع الرعد، حتى صار الحصار وقودًا، والدم عنوانًا، والدمع سلاحًا. غزة التي هزّت عرش الصهيونية، لا تسقط، بل تنهضُ كل مرة كأنها خُلقت لتُقاتل، خُلقت لتُربك، خُلقت لتنتصر.
“هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا…” [الحشر: 2].
تلك هي سنن الله في الطغاة المعتدين، وتلك هي حقيقة غزة: قطعة صغيرة من الأرض، لكنها جبهة كبرى من جبهات الصراع مع الاحتلال. لم يكن انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005 صدفة ولا منّة، بل كان انكسارًا عسكريًا وأمنيًا صريحًا، وانتصارًا لصمود المقاومة وشعبها.
لقد توهّم كثيرون أن غزة بعد فك الارتباط ستكون على هامش الجغرافيا السياسية، وأنها ستغرق في الفوضى أو تتحول إلى عبء على المشروع الوطني. لكن غزة، كما القدس، لا تقبل الهامش، ولا تعيش إلا في قلب المعادلة. فمنذ الانسحاب، أعادت المقاومة ترتيب أوراقها، وبدأت تبني منظومتها الدفاعية والهجومية من الصفر، إلى أن صارت اليوم الرقم الأصعب في معادلة الردع.
من رحم الحصار والمعاناة، وُلدت معادلات الصواريخ والأنفاق والوحدات الخاصة والطائرات المسيّرة، وصار الاحتلال يحسب ألف حساب لأي اعتداء على غزة. ولم تكن معركة “طوفان الأقصى” إلا ذروة التحدي الذي بدأت ملامحه تتشكل منذ عام 2005، حين انسحب شارون تحت ضربات المقاومة، بعد أن تيقن أن البقاء في غزة يعني الاستنزاف والانكسار.
في ذلك الوقت، وصف جنرال إسرائيلي كبير غزة بـ”الخنجر المسموم”، وقال: “بقاؤنا فيها مغامرة ستقودنا إلى الهاوية”. وبعد قرابة عقدين، أثبتت الأيام صدق تلك النبوءة، لا من باب الهزيمة النفسية، بل من واقع الوقائع الميدانية.
لقد كشفت عملية طوفان الأقصى هشاشة المنظومة الأمنية الصهيونية، وعرّت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، فبينما كان الاحتلال يتغنى بالقبة الحديدية والتقنيات، كانت المقاومة تحفر الأرض وتصنع السلاح وتُحضّر للزلزال. وحين دوّى الزلزال فجر السابع من أكتوبر، تغيرت قواعد اللعبة.
إن هذا التحول لا يعني فقط كسر هيبة العدو، بل يعني أيضًا إعادة تعريف مفهوم الردع، ليس بالمعنى التقليدي فحسب، بل بالمعنى الاستراتيجي: أن تكون غزة المُحاصَرة قادرة على تهديد العمق الصهيوني، بل وإخضاعه لشروطها في الميدان والسياسة.
ولأن الانتصارات الكبرى لا تُقاس فقط بعدد الصواريخ أو القتلى، بل بعمق التحول البنيوي، فإن “طوفان الأقصى” جاء تتويجًا لمرحلة مقاومة صلبة ابتدأت بخروج الاحتلال من غزة، مرورًا بتجارب المواجهة (2008، 2012، 2014، 2021)، ووصولًا إلى المعركة الكبرى التي فرضت على العدو واقعًا جديدًا لم يعد قادرًا على التعايش معه أو تجاوزه.
في لحظات الغضب واليأس، تتعالى الأصوات المشكّكة في جدوى المقاومة، وترتفع صرخات محمّلة بالوجع والسؤال المشروع: “أين النصر؟”. غير أن فهم النصر لا يُختزل في معادلات الخسائر المادية أو عدد الضحايا، بل في جوهر الصراع وقيمه ومعاييره. فكما صمدت لينينغراد في وجه النازية، وانتصر الفيتناميون رغم طوفان القنابل الأميركية، واستعادت أفغانستان زمام المبادرة بعد عقدين من الاحتلال، فإن النصر في حالتنا ليس لحظة خاطفة بل مسار ممتد من الثبات، الصبر، والالتزام العقدي. ووفق الرؤية القرآنية، فإن معايير النصر ترتكز على خمس ركائز: الثبات، ذكر الله، طاعة أوامره، نبذ التنازع، والصبر.
ما يجري في غزة اليوم هو أحد أعقد فصول المواجهة الحضارية، حيث تُكتب ملامح الصمود وسط الدمار، ويُختبر الإيمان وسط الجوع، ويُصاغ معنى النصر من تضحيات الفقراء المقاتلين الذين باعوا أنفسهم لله، لا من توازنات اللحظة أو حسابات المنتصر الآني.
ولعل أعظم ما أنجزته غزة أنها أخرجت المحتل من خانة المبادِر إلى خانة المرتبك، وجعلته يركض وراء الأحداث، بدل أن يصنعها. ومن هناك، من بين الركام، ومن قلب الحصار، استطاعت غزة أن تحاصر الاحتلال نفسيًا وسياسيًا وأمنيًا، وتعيد تشكيل الوعي العربي والدولي حول حقيقة الصراع.
إن غزة، رغم المحرقة، لم تسقط، بل نهضت كالعنقاء من تحت الركام، لتعلن للعالم أن إرادة التحرير لا تُقهر، وأن الأوطان لا تُبنى إلا على أنقاض الطغيان. بين انسحاب الأمس وطوفان اليوم، تتجلى سنن الله في التغيير، وتظل غزة تحمل لواء الحلم الفلسطيني حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
فهل آن للعالم أن يسمع صوت غزة لا أن يُخرسه؟
* رئيس مركز غزة للدراسات والإستراتيجيات

قد يعجبك ايضا