الثورة / متابعات
في قلبِ الخيام التي غَزَلتها النجاة من الموت، يُولدُ موتٌ من نوعٍ آخر، حرارة تكاد تُذيب الأرواح قبل الأجساد، وعطشٌ لا يرويه سوى دمع الأمهات، وجوعٌ يتجوّل على موائد خالية، باحثًا عن رغيفٍ أو ما تبقّى من فتات.
هذه غزة في حزيران. هذه غزة التي صمتَ العالم عن وجعها، وارتفعت حرارة صبرها حتى صار عذابًا مكشوفًا على وجوه أطفالها.
خيام تصنع الجحيم
ليست هذه الخيام مآوي، بل كما يصفها أهلها: “مقابر مؤقتة تحت الشمس”، قماشٌ رقيق لا يمنع وهجًا ولا يحجب لهيبًا، يُطبق على الأنفاس في ساعات الظهيرة، ويجعل من النوم حلمًا بعيدًا في كل ليلة بلا هواء.
في الداخل، تُحتجز الحياة بين حرارةٍ خانقة، وأصوات أطفال يئنّون من عطش، وكبار في السن لا يقوون على احتمال الصيف في قلب خيام كالأفران وواقعٍ أشد سخونة.
كهرباء؟ ماء؟.. هذه أمنيات
أجهزة التبريد مجرد ذكريات، الكهرباء مفقودة، وأمل عودتها مجرد أحلام، أما المياه، فهي معركة يومية، صفوف طويلة، تعب، وإمدادات قد لا تصل.
كثيرون لا يشربون ما يكفيهم ليعيشوا، ولا يغتسلون، ولا يستطيعون حتى تنظيف جراحهم المفتوحة من النزوح والخذلان.
غذاء.. أم ضياع؟
وجبة واحدة في اليوم أصبحت إنجازًا. أطفال ينظرون إلى رغيف الخبز كأنهم ينظرون إلى كنز، وأمهات يقتسمن حبات الرز، لا بالطناجر بل بالحسرة.
منظمات المساعدة تصل أحيانًا، لكنها لا تكفي، والقلوب التي يجب أن تُرسل شيئًا، مشغولة على ما يبدو بأمور أخرى.
أصوات من عمق الخيمة
أم محمد، نازحة من حي الشجاعية، بصوت متكسر من الحرارة تقول لمراسل المركز الفلسطيني للإعلام: “لم نخرج من بيوتنا بحثًا عن النجاة، بل خرجنا لنموت بطريقة أبطأ، هذه الخيام ليست مأوى… هذه نار فوق نار”.
أبو وسيم، خمسيني فقد كل شيء، يضيف بمرارة: “نعيش دون ماء، دون كهرباء، دون طعام. العالم يرانا، لكنه لا يرانا. وكل ما نريده هو القليل… القليل فقط لنشعر أننا بشر”.
أما هدى، 12 سنة، تحتمي تحت ظلِّ قنينة ماء فارغة تقول: “أريد فقط مروحة… فقط مروحة، أو كوب ماء بارد. لا أريد شيئًا كبيرًا. فقط أن لا تموت أختي من الحر”.
طبيب متطوع في خيمة إسعافية يُحذر: “أمراض الجفاف بدأت تنتشر بين الأطفال. هناك حالات إغماء متكررة. الوضع أخطر بكثير مما يُعرض على الشاشات”.
غزة تنادي… هل تسمعون؟
هذه ليست نداءات استعطاف، بل شهادات على مأساة تُرتكب يومًا بعد يوم، على مرأى ومسمع من عالمٍ اختار أن يُشيح بوجهه.
غزة لا تطلب ترفًا. تطلب ماءً، ظلًا، طعامًا، وكهرباء. تطلب أن تُعامل كبقية البشر، لا كرقم في نشرة، أو لقطة في خبر عاجل يُنسى بعد لحظات.
أمام هذا الجمر الممتد، الناس تدعو العالم الحر، والمؤسسات الإنسانية، ووسائل الإعلام، إلى أن تنزل من منصات البيانات إلى أرض المعاناة. أن تتحرك، لا لتوثّق المأساة فقط، بل لتكسرها.