عندما اختارت اليمن النهج الديمقراطي التعددي الذي اقترن بالإنجاز الوحدوي وقيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م ساورت البعض الكثير من المخاوف من أن تسقط هذه التجربة الديمقراطية التعددية الوليدة في أول اختبار لها. وقد اعتمد هؤلاء في تبرير مخاوفهم على قراءتهم لمجريات واقع ما قبل عام 1990م. وعلى الرغم مما أحاط بهذا التحول من ظروف وتحديات فقد كان هناك إصرار من القيادة السياسية ممثلة بفخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية على إنجاح هذه التجربة والدفع بها نحو التقدم والرسوخ والثبات. وبفضل ما حظيت به التجربة الديمقراطية من الرعاية والاهتمام استطاعت خلال فترة وجيزة تجذير مداميكها وترسيخ قواعدها وتحديد منطلقاتها الأمر الذي أزال كل ما أحاط بها من توجسات ومخاوف لتغدو خياراٍ جماهيرياٍ وشعبياٍ ووطنياٍ قادراٍ على تجديد نفسه وتطوير توجهاته وتحديث آلياته وإكسابها المزيد من الحيوية عاماٍ بعد عام. وكان فخامة الرئيس علي عبدالله صالح محقاٍ وهو يؤكد أن التجربة الديمقراطية ومهما واجهت من الصعاب والعراقيل واعترضت طريقها التجاوزات والأخطاء فإنها بما تمتلكه من زخم جماهيري ستظل قادرة على إبراز حضورها وإشاعة مفاهيمها الحضارية وتكريس ثقافتها وتقاليدها في الوسط الاجتماعي وترشيد تلك التجاوزات والمسلكيات الخاطئة. وما زلنا نحفظ للأخ الرئيس تلك العبارة الشهيرة التي قال فيها: “ليس هناك أسوأ من الديمقراطية إلا عدم وجودها” مشيراٍ في هذا الصدد إلى أن “المشاكل الناتجة عن الديمقراطية تحل بالمزيد من الديمقراطية”. ولعل مثل هذا الطرح الحاسم والجازم جسد بوضوح تام وكامل أن الديمقراطية في اليمن صارت خياراٍ لا رجعة عنه باعتبارها الوسيلة الحضارية الضامنة للاستقرار السياسي والنأي بالوطن عن الوقوع في بؤر التوترات والصراع على السلطة ومثالب حقب الانقلابات وذلك لتكفل الديمقراطية بالبدائل التي تتأطر بمبدأ التداول السلمي للسلطة والتنافس الشريف بالبرامج لنيل ثقة الشعب في صناديق الاقتراع والاحتكام إلى إرادته وعدم الخروج على هذه الإرادة من أي طرف كان باعتبار أن الشعب هو مالك السلطة وصاحبها ولا مجال للالتفاف على هذا الحق أو التحايل عليه بأي شكل من الأشكال. والمؤكد والثابت أن النجاحات التي حققتها اليمن على الصعيد الديمقراطي وما شهدته من دورات انتخابية برلمانية ومحلية ورئاسية شهد بنزاهتها العالم جعلها واحدة من دول الديمقراطيات المتفردة والمتميزة على مستوى المنطقة والعالم الثالث. إلا أن هذا المشهد المزدهر بألوانه المختلفة ربما أنه لم يرق لبعض القوى السياسية والحزبية التي وجدت نفسها بفعل ثقافتها الشمولية وموروثها الثقافي الماضوي عاجزة عن التكيف مع مجريات الديمقراطية ومساراتها الناهضة فعمدت إلى الأساليب الملتوية ووسائل التعطيل وتسميم الحياة السياسية خاصة بعد الانتكاسات المريرة التي منيت بها في الدورات الانتخابية الأخيرة. ويبدو هذا التحلل من الديمقراطية جلياٍ ومكشوفاٍ في تخلي أحزاب اللقاء المشترك عن التزامها بتنفيذ اتفاق فبراير الذي أجلت بموجبه الانتخابات البرلمانية لمدة عامين وتهربها أيضاٍ من كل دعوات الحوار وتنصلها من مسؤوليتها تجاه وطنها ومجتمعها واندفاعها إلى التماهي مع العناصر التخريبية والانفصالية والإرهابية سواء منها تلك التي أشعلت فتنة التمرد في محافظة صعدة وحرف سفيان أو تلك العناصر المأجورة والتخريبية والانفصالية التي تقوم بإثارة الفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار والاعتداء على المواطنين والتقطع في الطرقات ونهب الممتلكات العامة والخاصة في بعض مديريات المحافظات الجنوبية أو تلك العناصر المتطرفة والإرهابية المنتمية إلى تنظيم القاعدة يدفع هذه الأحزاب إلى ذلك إصرارها العجيب والغريب على تعطيل إجراء الانتخابات النيابية القادمة في موعدها المحدد في ابريل من العام القادم دون وعي من هذه الأحزاب بأن ما تسعى إليه أمر غير مقبول بالمطلق باعتبار أن الاستحقاقات الديمقراطية استحقاقات للشعب وليست للأحزاب ولا يحق لها أو لغيرها عرقلة عملياتها إما بدافع الابتزاز أو الرغبة في الحصول على بعض المكاسب والمصالح السياسية والحزبية والشخصية من خارج صناديق الاقتراع. وأمام هذه الحالة من العناد والمكابرة والمغامرة والمقامرة فإن المسؤولية تفرض على المؤسسات الدستورية المضي في تأدية واجباتها والتزاماتها أمام الشعب من خلال الإعداد والتحضير للانتخابات القادمة سواء شاركت تلك الأحزاب فيها أو قاطعتها فالديمقراطية كفلت حق المقاطعة وحق المشاركة. إذ ليس من بين شروط الديمقراطية العريقة منها أو الناشئة ضرورة أن يشارك الكل فمن لم يقتنع بالالتحاق بقطار الديمقراطية فهذا شأنه ولا شأن للديمقراطية به. حيث إن من يقبل بالديمقراطية عليه أن يتوطن ويتكيف مع قيمها وتقاليدها ويستجيب لاستحقاقاتها لا أن يتحول إلى عائق لخطواتها أو صداع يؤرق تحولاتها المشرقة ومنطلقاتها الزاهية والنيرة ويريد لها السقوط في فخاخ التقاسم والتحايل والشمولية. وشاء هؤلاء أم أبوا فإن الانتخابات هي ضمير الديمقراطية.