احتر الإمام التلغراف لحاشيته ومنعهاعلى المواطنين وحول بعض المدارس إلى سجن


لم يستفد من الأساليب العثمانية لإدارة الدولة سوى القصاصات والتقويم التركي من باب الحيلة

لم يستفد الإمام من الأساليب الحديثة التي أدخلها الأتراك في حكمهم الثاني إلى اليمن فقد ادخل العثمانيون عام 1876 الطباعة إلى اليمن وأصدروا أول صحيفة وقاموا بتوسيع الطرقات لنقل المدافع وإدخال سلك التلغراف ونظام الإدارة والأرشفة بعد انسحاب العثمانيين من اليمن إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى وتسلم الإمام يحيى المناطق التي كانوا يسيطرون عليها عمد الإمام إلى إلغاء جميع النظم الإدارية وأساليب التعليم الحديثة ففرض حصاراٍ على البلاد وعزلها عن العالم خوفا من الدول المستعمرة وثانيا من استنارة أفراد الشعب حتى لا ينقلبوا عليه لهذا حاول المستنيرون والعلماء مراجعة الإمام في ذلك ولكن دون جدوى فكانت ثورة 48 التي فشلت وتولى أحمد بن الإمام يحيى السلطة وأعلن نفسه ملكا منتهجا نفس عقلية أبيه وعلى رغم الانفتاح الطفيف الذي حصل في أواخر أيامه بسبب إصرار ابنه البدر وجاءت ثورة سبتمبر ولا يوجد في طول البلاد وعرضها سوى مدرسة ثانوية واحدة هي المدرسة العلمية بصنعاء ومستشفيين اثنين لا تزيد سعتهما على مائتي سرير فقط وطريق إسفلتي واحد بطول مائتين وثلاثين كيلو متراٍ.

عارف الأتام

ومع إهماله للتعليم وجعله مقتصرا على فئة معينة كانت المدارس الموجودة في حالة فقيرة جداٍ فليس هناك أي نظام على الإطلاق ولا منهج دراسي ويتولى التدريس فيها معلم واحد يتلقى الأطفال فيها تعليماٍ أولياٍ محصوراٍ في القراءة والكتابة على ألواح من الخشب وسكان تلك القرى القليلة المحظوظة كانوا هم أنفسهم الذين ينفقون على هذه المدارس بل إن بعض المدارس التي تركها العثمانيون تحولت إلى سجون أشهرها مدرسة (الصنائع) التي حولها إلى سجن الصنائع الذي ظل حتى قيام ثورة 26 سبتمبر.
وفي جنوب الوطن اتخذت بريطانيا من عدن محطة للتموين بالماء والوقود لأساطيلها التجارية المتنقلة بين موانئ بريطانيا وموانئ مستعمراتها في الهند والصين وربطت عدن إدارياٍ بالإدارة البريطانية في الهند ثم ربطتها بالتاج البريطاني مباشرة وفي المناطق الجنوبية حظيت ببعض المدارس التي حصرت في عدن فقط فيما حرمت منها بقية المناطق.
وباستثناء ماكان يفيده شخصيا ويلائم نفسيته أبقى الإمام على بعض الأشياء مستخدما إياها دون تحديثها أو تطويرها. ويقول مؤلف كتاب البعثة العراقية العميد الركن سيف الدين إن الإمام ظل يستعمل دفاتر الدولة العثمانية وأوراقها طوال حكمه وتقول الطبيبة الفرنسية إن التقويم “الزمن” في اليمن له جنسيات ثلاث: التوقيت الغربي وهو الذي أؤرخ به رسائلي إلى فرنسا.. والتقويم العربي وهو الذي يبدأ بالهجرة.. وأخيراٍ شهور تركية وهي أثر للاحتلال العثماني.. ورغم أن تركيا نفسها قد تخلت عنها منذ زمن طويل فإن اليمنيين مازالوا يستعملونها دون أن يستطيع أحد هنا أن يعطي تفسيراٍ واضحاٍ لهذا. ولكن الحكومة هي وحدها التي تستعملها. وتقول ألسنة السوء إن الحكومة تحقق توفيراٍ خفياٍ في مرتبات موظفيها من هذا اللبس والغموض الذي تحيط به تقويمها.
وقد اشتهر اليمن كما لم يشتهر أبداٍ من قبل بالعلم ومدارسه وأصبحت منارته العلمية قبلة العلماء وطلاب العلم من خارج اليمن وواكب ذلك نفوذ سياسي يمتد إلى ما هو أبعد من اليمن إلى الحجاز والحبشة وغيرها وفي الحقيقة لم يتمكنوا من صنع حضارتهم القديمة إلا في ظل الاستقرار والأمن والسلام ولم يتحقق ذلك إلا في ظل وحدة الأرض والشعب والحكم ولم تتحقق له الوحدة إلا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية.
منذ دخول الإمام يحيى صنعاء 1920م عالج شئون الدولة الداخلية بمزيد من الظلم والاستبداد الفردي مستغلاٍ الدجل باسم الدين ومستثمراٍ نضال الشعب اليمني ضد الأتراك غير مستفيد مما خلفه الأتراك إلا ما كان له علاقة بضبط الضرائب وتحويل المباني أو المخازن إلى استخدامات على غير ما كانت عليه وهو ماجعل الطبيبة الفرنسية تقول:” مهما يكن من أمر فإن اليمن التي تساوي ثلث مساحة فرنسا ويسكنها نحو خمسة ملايين نفس ما زالت تعيش في ظلام القرون الوسطى وهي من وجهة النظر السياسية مملكة إقطاعية اقتصادها قائم على الزراعة والحرف” وتعلق “لهذا فهي ميدان مفيد جداٍ للباحثين في أصول السلالات البشرية ومميزاتها”.
وهي مسافرة توقفت الطبيبة الفرنسية بذمار عند العامل وجاءت طلبات من بعض الأغنياء والنافذين إلى العامل يريدون معالجة مرضاهم وساقوني إليهم أما الفقراء فلم يكونوا يتوجهون من أجل مرضاهم إلى العامل فذلك غير مجد بدون شك .. ولكنهم كانوا يستوقفونني في الطريق وتزداد طلباتهم عندما يرونني استجيب لهم وأذهب معهم وكان عبده مترجمي يسهل ذهابي إليهم بينما يشكو بمرارة إذا ما تأخرت عن بيت من البيوت الكبيرة ولم استطع تلبية كل الطلبات.
وكان من النادر الدخول إلى اليمن أو الخروج منها عن غير طريق عدن فليس من خط جوي منتظم يمر فوق الأراضي اليمنية ورغم أن في مدن اليمن الرئيسية الثلاث: صنعاء والحديدة وتعز مطارات صالحة لنزول الطائرات فلا تستعملها إلا طائرات الإمام لأنها محرومة من المؤسسات اللاسلكية التي تفرضها اللوائح الدولية وصاحب الجلالة لا يرى أية فائدة في إعداد هذه الطائرات بلوازمها أما في البحر فإن الحديدة تستقبل كل شهرين باخرة مصرية تعمل بين موانئ البحر الأحمر وسفينتين يمنيتين هما « صنعاء ومأرب» تصلان الحديدة بعدن ولكن هذا الاتصال غير منتظم والطريق المعتادة هي تلك التي تصل عدن بتعز وتقطع في يوم كامل أما في تعز فإن وسيلة المواصلات اللازمة لمواصلة الرحلة تتوقف على أوامر صاحب الجلالة. وتحكي الطبيبة الفرنسية أن تجار إنكليز في عدن حصلوا بعد مراجعات كثيرة على تصريح بالقيام ببعض الأعمال في اليمن وبناء على هذا ذهبوا إلى تعز قبل ثلاثة أسابيع وما إن وصلوها حتى فوجئوا بخبر مزعج هو أن الإمام قد أجريت له عملية جراحية كانت كافية لشل كل نشاط وكل حركة في البلاد !! وعجزوا عن الحصول على أي اتفاق أو جواب على مقترحاتهم فالإمام إذا توعك فإن أحداٍ لايستطيع أن يعمل شيئاٍ وحتى العودة لم يعد في استطاعتهم إذ لا يوجد من يصدر لهم الأوامر بالسفر.
فقد حصل وأن أرادت السعودية تحويل مبلغ كبير إلى اليمن وعجزوا في كيفية تحويله فلا مصارف أو بنوك سوى فرع بنكاٍ للتاجر اليمني بن محفوظ الذي كان يملك بنكاٍ في السعودية وفتح فرعاٍ في الحديدة. ويقول صاحب مذكرات البعثة العراقية إن اليمن هو البلد الأوحد في العالم الذي لا عهد له بالنظام المصرفي من أي نوع كان ولن تجد في طول البلاد وعرضها فرعاٍ واحداٍ من فروع المصارف العالمية بل إنه ليس هناك وزارة للمالية وإنما هناك بيت المال مسؤول عنها الإمام نفسه مباشرة ولايشرك فيها أحداٍ من العالمين.
ويقول سيف الدين: أيضاٍ هناك دائرة المالية هي التي تتعامل مع الحكومة وتقوم بتوزيع المصروفات وهي عبارة عن غرفة صغيرة يحشر فيها كل مستلزمات المملكة المتوكلية ولا تتعدى هذه الغرفة أن تكون غرفة يتراكم الغبار والتراب على كافة جدرانها وعلى كل جسم مسطح أو مجسم له وجود في هذه الغرفة يزين جدرانها الأربعة بمختلف الأنواع والأحجام والأطوال من المسامير التي تشك فيها مئات وآلاف الوريقات أو قصاصات الورق التي هي المعاملات الخاصة بصرف الريالات.. ذلك هو نظام الأرشيف في كل الدوائر الحكومية بما فيها الجيش فإذا ما تآكلت عن آخرها لن يخسر القوم شيئاٍ ذا أهمية في الحسابات لأن كل شيء عندهم في الحياة إلى زوال.
أما الطبيبة كلودي فايان تقول: “دخلت إلى المالية وكانت الريالات منثورة في كل شبر فيها في كل كيس ألف ريال وفيها خزانة مليئة بالنقود الأجنبية وصفائح بنزين وعلب محفوظة وقطع غيار السيارات وأجهزة لترشيح المياه وقد أخذ أحد الجنود كيساٍ وفتحه بالخنجر وجلس يعد لي أربعمائة ريال وكان حولنا نحو مائة جندي يتزاحمون وقد جثا صلاح يراقب العملية عن قرب.. أما أنا فقد كنت أضع الريالات في حقيبة أنيقة وعلى مقربة منا كان الأسد العجوز يزمجر بعنف في قفصه وكان الإمام قبل عدة سنوات يصطحبه معه في الاستعراضات وفي رقبته طوق وسلاسل يشدها العبيد من كل جانب ولكنه الآن تقدمت به السن وهم يربون أشبالاٍ أخرى في قصر الملك ولو أنها لاتزال صغيرة وغير هادئة أما الأسد العجوز فيقضي بقية أيامه بجوار مالية الحكومة”.

قد يعجبك ايضا