د. يحيى بن يحيى المتوكل –
هل يمكن تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي في الدول المختلفة¿
اختتاماٍ للمقالات الثلاث السابقة حول اقتصاد السوق الاجتماعي تنظر هذه المقالة الرابعة والأخيرة في إمكانية تطبيق منهج اقتصاد السوق الاجتماعي على الدول المختلفة وكذلك المعنى الحقيقي والجوهري لمثل ذلك التحول والذي يتجاوز النشاط الاقتصادي إلى أسس وركائز الدولة المؤسساتية والديمقراطية. ويثير بعض المفكرين والاقتصاديين سؤالاٍ جوهرياٍ حول إمكانية تطبيق منهج اقتصاد السوق الاجتماعي على الدول المتحولة من النظام الاشتراكي إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي والسياسي الديمقراطي كما حصل في الجمهورية اليمنية التي أعلنت في مايو 1990. ورغم أن الأغلب يرون في النموذج الألماني لتطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي حالة تاريخية خاصة إلا أن الأزمات التي تجاوزتها الدول التي تبنت هذا المنهج وكذلك تطوره عبر السنين أثبت قابلية تطبيقه على البلدان المختلفة من خلال توسيع أو الحد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. ويتسم نظام اقتصاد السوق الاجتماعي بمجموعة من الخصائص أهمها المرونة والتي يقصد بها إمكانية زيادة أو تقليص تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي حسب مراحل تطور الدولة والضرورة والاحتياج وكذلك الانفتاح الذي جعل هذا النظام يتميز بالكفاءة والتطور والابتكار نظراٍ لقدرته على التعامل مع المتغيرات والأحداث الداخلية والخارجية.
فمع مرور السنوات اتجهت نظرية اقتصاد السوق الاجتماعي نحو العمل بقوى السوق مع الاحتفاظ بالجوانب الاجتماعية بحسب الحاجة والضرورة. بل إن البعض يرى أن التزام اقتصاديات العالم بمبادئ اقتصاد السوق الاجتماعي يجنب العالم الأزمات المالية والاقتصادية أصلاٍ خاصة وأن السوق الحرة أداة غير مسئولة للتطور وقيمها الأخلاقية عمياء وبالتالي فاقتصاد السوق الاجتماعي يعتمد على الدولة في المحافظة على النظام وإعطاء الناس الإطار الذي يطور قدراتهم وفرصهم الاقتصادية ويجعل من الممكن التغلب على التخلف وتحقيق الاستقرار الاقتصادي جنباٍ إلى جنب مع العدالة الاجتماعية.
فالأمر الهام أن هذا النظام ينشئ توازناٍ ديناميكياٍ بين مكونات العملية الإنتاجية والسياسية والمجتمعية باعتباره نظاماٍ مرناٍ ومفتوحاٍ للأفكار الجديدة والتطورات وبالتالي يطمح إلى التحسين المستمر عن طريق فحص فعاليته ونتائجه من خلال المقارنات الدولية ورضا المواطن. وتستطيع الاقتصاديات التي تتبنى هذا المنهج أن تتعامل مع الظروف والمتغيرات المختلفة مقارنة بالأنظمة الاقتصادية الأخرى فمثلاٍ عند زيادة معدل البطالة تتدخل الدولة ويكون دورها أكثر فاعلية وعلى العكس من ذلك في حالة التوظيف الكامل. لذلك يكون دور التقييم والمتابعة العملية والعلمية له من خلال الخبراء وراسمي السياسات الاقتصادية أمراٍ مطلوباٍ لوضعه دوماٍ في المسار الصحيح.
ويظهر تساؤلَ آخر حول التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي كتحد في حد ذاته خاصة لتبرير هجر فلسفة اقتصاد السوق الحر الذي تتبناه الدولة اليمنية والمنصوص عليه في دستورها الحالي إلى فلسفة أو منهج آخر كاقتصاد السوق الاجتماعي. ويتبادر إلى الذهن مجموعة تساؤلات أولها أننا قد نحتاج في حال الخوض في هذه التجربة وعدم تحقيق الأهداف المتوخاة أن نعود مرة أخرى للبحث عن فلسفة ونظام جديدين وهكذا نستمر في عمل دائري لا ينتهي. لذلك فإن أي تحول أو تغيير في المنهج الاقتصادي يستوجب الدراسة العميقة لطبيعة النظام الاقتصادي وجوانبه السياسية والاجتماعية وخصائصه والسياسات الاقتصادية التي اتبعها وتقييم النجاح والفشل وأسبابه ومن ثم البحث في البدائل النظرية ودراستها وتقييم تطبيقاتها والنظر في مقومات ومتطلبات نجاحها.
الأهم أن على الحكومات تجديد طرائقها في الإدارة وتمكين الناس من المشاركة الشعبية في الحكم والتنمية. كما أن اعتماد آليات السوق لا يعني أن تتخلى الدولة عن مسؤوليتها تجاه المجتمع إذ أظهرت تجارب دول آسيوية عديدة مثل كوريا الجنوبية وماليزيا تحقيق تطور ملحوظ باعتماد اقتصاد السوق الحر الذي ارتبط بدور فاعل وأساسي للدولة في تطوير البنية التحتية وتطوير التعليم والتدريب النوعي للقوى العاملة وتقديم الخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين عن العمل وأولاٍ وأخيراٍ توفير مناخ موات للاستثمار والنمو الاقتصادي. وفي اليمن مع التحول الديمقراطي وتبني التعددية السياسية والتحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق الحر واللذين أصبحا واقعاٍ لا يمكن الرجوع عنه في ضوء الظروف الدولية والإقليمية والمحلية فإن الدولة ملزمة في إدارتها للشأن الاقتصادي بإشراك جميع الفاعلين ومنهم المؤسسات التمثيلية للقطاع الخاص والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني من جماعات الحفاظ على البيئة وجمعيات حماية المستهلك وغيرها كل حسب طاقاته وقدراته. لذلك تجري الحكومات مشاورات قبل إصدار القوانين أو تبني سياسات من شأنها التأثير على الأوضاع والمصالح الاقتصادية والاجتماعية أو البيئية فضلاٍ عن مسئوليتها في تقديم الحلول تجاه حاجات المجتمع وقضاياه. ولن تكون الدولة ومؤسساتها وأعمالها ناجحة إلا إذا دخلت في حوار مستمر مع أولئك الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بالإضافة إلى ضرورة أن يكون دورها مرناٍ وفقاٍ لكل حالة ومرحلة يمر بها الاقتصاد وفي ضوء التطورات الاقتصادية الداخلية والخارجية.
وعادة ما تنبع الضغوط لتغيير دور الدولة من مصادر ثلاثة تتمثل أولاٍ في المواطنين الذين يريدون وجوداٍ أكبر للحكومة والاستجابة لمطالبهم واحتياجاتهم وثانياٍ القطاع الخاص الذي يطالب بحرية أوسع للأسواق وقوانينها وأخيراٍ التأثيرات الخارجية الناتجة عن تطورات واتجاهات اجتماعية واقتصادية عالمية أو إقليمية. كما يعتبر الحوار مع الأحزاب السياسية وداخلها أمراٍ ضرورياٍ لإشراكها في صنع القرار وخاصة القرارات بعيدة المدى. وفي ضوء هذا الحوار تقوم الدولة بمراجعة دورها على صعيد النشاط الاجتماعي والاقتصادي سواءٍ بإعادة توجيهه وتشكيله أو تقليصه أو توسيعه وكذلك تحديد ما ستقدمه الدولة من سلع وخدمات عامة ومعرفة ما هو مقبول اجتماعياٍ.
كما أن تحديد دور الدولة في إطار اقتصاد السوق الاجتماعي يتطلب أيضاٍ بيان نطاق كل من القطاع الخاص والمجتمع المدني وكذلك مراجعة تلك الأدوار من وقت لآخر في ضوء التطورات المحلية والخارجية والتكيف مع المتغيرات العميقة في المجتمع وفي سوق العمل والاستفادة من المرونة التي يوفرها هذا النظام الاقتصادي في تحقيق التوافق المجتمعي على السياسات والقرارات الاقتصادية الهامة مع توفير أساسيات لهذا التوافق أهمها شروط الإطار العملي إذ أن توفر القوانين اللازمة والقضاء المستقل واحترام حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية والمشاركة في صنع القرار مع إحداث تغيير ايجابي ونوعي في أسلوب الإدارة وإزالة ما اقترن بها من بيروقراطية وفساد كلها شروط لا غنى عنها في توفير نظام توجيهي طويل الأمد للأنشطة الاقتصادية. وبدون هذا الإطار العملي الواضح والمقبول اجتماعياٍ سوف تسعى جهات اقتصادية عديدة إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح والحصول على مزايا على حساب الآخرين أو حتى على حساب المجتمع كله.
الخلاصة أننا حين نتفق على عملية التحول في اليمن نحو اقتصاد السوق الاجتماعي بمبررات عقلانية ومنطقية وتوجيهه نحو الصالح العام نؤكد على دور الدولة في العديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وتحولها بشكل عام من العمل المباشر في النشاط الإنتاجي إلى الدور الإشرافي والتنظيمي مع تواجدها الفاعل في المجالات الإستراتيجية أو التي يحجم القطاع الخاص عن ممارستها. فالتحديات التي تواجه الدولة بنيوية تتطلب تحقيق التنويع والتوازن في هيكل الناتج المحلي وتصحيح اختلالات سوق العمل وإصلاح الموازين العامة والسياسة النقدية وأدواتها وتوفير بيئة استثمارية جاذبة. كما أن تدخل الدولة لا يقتصر على تصحيح فشل السوق وإنما أيضاٍ إعادة توزيع الدخل والثروة ودعمها للمجالات الاجتماعية بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية.
yyalmutawakel@yahoo.com