في مقام الإمام علي عليه السلام

د.حمود عبدالله الأهنومي

 

 

ما أحوجنا نحن أمة الإسلام – وقد حلت بنا الأجواء البهية، والأنوار الوضية، في ذكرى الغدير المجيدة، وحادثته التليدة – أن نحلِّق إلى السمات الزكية، والنفحات الربانية، والمنهج المحمدي الخالد، والدرب العلوي الماجد؛ ذلك أن هذا الإمام العظيم علي بن أبي طالب عليه السلام حين نتذكره في يومه هذا الفخيم، فإننا نتذكره بمؤهلاته العملاقة، وصفاته الخلاقة، وأمجاده الشامخة، وسماته الباذخة، نتذكر عليا البطل الشجاع، والفدائي الأول في الإسلام، ونستلهم دروس الجهاد المنطلق من أسس الإيمان من علي المجاهد الواعي والمؤمن، نتطلع إلى علي العالم الرباني، ونحلِّق في سماء المجد لعلي الأواه المنيب، ونخشع لتراتيل ومناجاة ودعاء علي الخاشع البكّاء، ونستخلص التجارب من فم علي المجرب الحكيم، والفيلسوف العظيم، ونستمد جذوتنا الروحية من علي الداعي إلى ربه على بصيرة من أمره، ولا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما أوتينا حين نبصر عليا الزاهد، ونصابر أنفسنا على الطاعات حين نستوعب عليا العابد، ونشمِّر عن ساق الجد لطلب العلم واتخاذه خيارا لا رجعة فيه حين نمير من مدينة العلم التي علي بابها.
لعلي عليه السلام من الفضائل ما يعجز عن التعبير عنها أبلغ القائلين، وما عسانا نقول بعد قول الله تعالى وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لوحة رائعة بديعة في كلية الزمان وخلود المكان، تستطيع قراءته والادكار لفضله من القرآن فتراه فيه كريما جوادا برًّا فدائيا مجاهدا مخلصا محبا لله ورسوله، تستطيع أن تتعرف عليه في سيرة معلمه الأول ومربيه الأكمل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتجد فيه نفس الرسول وعديله إلا النبوة، حتى ليشتبه عليك أيهما إن سمعت بصفات أحدهما، وقد فاتك من يعود عليه الحديث فلا تدري أذلك الموصوف في ذلك الحديث هو محمد المعلم المثالي أم علي التلميذ البر الوفي؟، علي صفحة التاريخ الناصعة، وسريرة النقاء الواضحة، ولؤلؤة الأمجاد اللامعة، ولو لم يقل فيه ربه سبحانه شيئا ولا حكى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصفا، لظهر للبشرية بأوصافه وحلاه وأمجاده وشجاعته وتضحيته وعلمه وزهده وورعه وعبادته وتقواه وعدله ومساواته بين الناس ونصحه وحكمته وفقهه وصبره وتواضعه وكماله في مجمل الكمالات البشرية، ولما وسعها إلا أن تحنو له بجباه الاحترام الذاتي وشارات التبجيل الاختياري، فإذا لم ينص كتاب الله على علي عليه السلام فقد نص عليه كتاب الأخلاق وسِفْرُ الفضائل وأمجادُ المساعي وحميدُ القول والفعل والمبدأ، وإذا لم ينص عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ففي ترجيع التاريخ لصدى أمجاده وترتيله أنبل مساعيه، وفي تسنمه كاهل الفضل وذروة الخير نصٌّ صريحٌ بأن عليا عليه السلام هو العلي الذي فاق من سواه، وأنه هو الوصي والخليفة والولي.
لهذا فيحسن بنا استرجاع علي واستحضاره في هذه الذكرى للنظر في ما حل بنا من أقذاء ونقص وجمود وجهل وخرافة وعوج وانحراف، إذ هو مدرسة التاريخ الأصيلة التي لا يقصدها إلا نوابغ الرجال، وأفذاذ الكرام. هو درس خالد، وطريقة ومنهاج إلى الرشاد والهدى، هو معلم من معالم التقى والسداد، وبلسمٌ شافٍ من أنجع الأدوية لأدواء هذه الأمة، هو نهضة حضارية أنموذجية، ودليلٌ راق إلى معارج الكمال ومدارج الجلال، هو ينبوع بل نهر على ضفاف جنات عدن، يمير منه الأكرمون، ويمتاحه السعداء الأمجدون.
إن من مشكلات الأمة اليوم جهلا وعمى مع ادعاء الفضل والتقى؛ فأطاح بها وجعلها في ذيل الأمم ولها أن تخرج من سور الجهل ومستنقع التخلف والبعد عن مصادر الهداية بهدي علي عليه السلام إذ يقول «الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق»، علي دعا الناس إلى العلم فقال «العلم وراثة كريمة، والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية»، ولهذا فمن الجدير بشيعة عليه عليه السلام اليوم أن ينفضوا عنهم أردية الجهل وأقنعة الغباء ألم يقل علي عليه السلام: «لا ترى الجاهل إلا مفْرِطا أو مفرِّطا»، إنه ليس من الإنصاف أن تكون من أغبى البشر وأظلم الورى وأطمع الناس وأوقح الخليقة ثم تدعي أنك شيعة لأعلمهم وأعدلهم وأبرِّهم وأسمحهم، وقد حدد علي عليه السلام خارطة طريق واحدة لأولياء محمد وآل محمد إذ قال: «إن ولي محمد هو من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته».
في ذكرى الغدير يجب على الأمة اليوم وهي تسترد عزتها وكرامتها ومجدها وحريتها من عتبات أعدائها في الداخل أو في الخارج أن تتخذ من علي عليه السلام منهاج كرامة وأستاذ جهادٍ حقِّ، فقد أبلى دروس العزة والكرامة والجهاد في بدر وأحد وخيبر والخندق وحنين وصفين والجمل والنهروان، على الأمة أن تثور على ذواتها المنحرفة حين حكمتها شريعة الغاب، وساد في ما بينها الحسد والطمع والتكالب على الدنيا، ألم يقل علي عليه السلام: « أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»، ويقول: « الطمع رق مؤبد»، هو الذي مات ولم يخلف لا صفراء ولا بيضاء إلا 700 درهم ادخرها لشراء خادم يعين أهله على عملهم، واليوم ها هي الدماء تسيل على ضفاف الأطماع على الكراسي، ويُقْتَل العشرات والمئات وليس الهدف سوى الكراسي والانتصارات الزائفة التي تنتصر للذات لا للحق، ولهذا فيجب أن يكون عيد الغدير لجاما لأطماع المتوحشين.
هذا علي عليه السلام في ذكراه لا زال يطل بطلعته البهية وناموسه الذي يردده الكون برؤيته الفاحصة والحكيمة وصوته الوقور الهادئ المنبعث من قلب جياش بالمحبة وعقل مفعم بالتجربة، يقول لنا في زمن ملئ فتنا وضلالات: «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب»، ويقول: «إن الأمور إذا اشتبهت اعتُبِر آخرُها بأولها».
علي هو المثل الأعلى للحاكم المسلم العادل الذي يحب لقاء الله ونذر نفسه لله ولشعبه وأمته، كان يصلي بالناس ويرشدهم ويهديهم خلاصة تجاربه ويعقد لهم حلقات الذكر، ثم يتفقد المساكين ويعظمهم ويعطيهم، ويوزع العطاء ولا يبقي شيئا، ويمر في الأسواق ليعظ البائعين بأن لا يحلفوا ولا يمحقوا بركاتهم بالأيمان الفاجرة، ويتفقد الباعة ومكاييلهم وموازينهم، ولا يمر خطوة ولا تمر به دقيقة حتى يرشد ضالا، أو يعلم جاهلا، أو يقيم أودا، أو يصلح خللا، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، كم هذه الأمة بحاجة إلى مبادئ علي ومواقفه للاستهداء بها في هذا المضمار، لتغيير أجواء الاستبداد والقهر والقمع والمحاباة والتوريث.
إن عليا عليه السلام ضحّى باستقراره السياسي من أجل إقرار مبدئه الحق في الحكم والعدالة الاجتماعية، فقد كان أحد أسباب تمرد أهل الجمل إلغاؤه الامتيازات التي حصل عليها السابقون في الإسلام فتضخمت ثرواتهم وتكدست أموالهم، ولما أراد علي عليه السلام أن يردهم إلى الوضع الذي كانوا عليه أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حنق منه بعض كبار الصحابة فتمردوا عليه، وأثاروها حربا شعواء ضده، وجاءت إليه امرأة عربية وأخرى عجمية فدفع إلى كليهما طعاما ودراهم بالتساوي فقالت العربية: إني والله امرأة عربية وهذه امرأة من العجم، فكيف تساوي بيننا؟ فقال علي عليه السلام: «إني والله لا أجد في هذا الفيء فضلا لبني إسماعيل على بني إسحاق».
علي عليه السلام كان قبل أن يحكم محكوما بواقع الخلفاء الذين سبقوه، وكان كثيرا ما يتبرم، ويلوِّح ويصرِّح بظلامته من خلال أخذهم حقه في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يقول: «ما زلت مظلوما مذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا»، ويقول: «اللهم اجز قرشا عني الجوازي فإنها منعتني حقي وغصبتني أمري»، ولكنه مع ذلك مثِّل المعارضة الإيجابية في أبهى صورها وأحسن حلتها، فكان الناصح الذي لا يدخر نصحا ولا مشورة لمن سبقه من الخلفاء، وكان نعم القاضي والمشير الذي آثر الصالح العام للإسلام والمسلمين على حقه، لأنه كان فقيه الأولويات فاستوعب مصلحة الإسلام وقرأ المعادلات السياسية الواقعة والمفترضة، وتعامل معها على أساس مصلحة الإسلام أولا.
علي علي السلام رمز الحرية والتفاني في ذات الحق الذي لم ينتصر لنفسه وإنما عاش حياته كلها لدينه وأمته، فقد بايعه جمهور المسلمين وبقي نفر قليل لم يبايعوه فلم يضغط عليهم ولم يقسرهم على البيعة ولم يرهبهم ولم يمنع عنهم عطاءهم، ولم يكن له قوائم سوداء لأوان الانتقام، وحين خذله الخاذلون في جهاد البغاة في الوقت الذي كان يجب عليهم أن ينصروه إذ أنه عَلَمُ الحق وراية الموقف الصدق لم يزد على أن وصّفهم توصيفا دقيقا بقوله عنهم: «خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل»، وتركهم وشأنهم يمارسون حياتهم بطريقتهم، ولما مرقت مارقة الخوارج عارضوه وناقضوه وكانوا يصيحون عليه من أطراف المسجد، وكفروه عيانا بيانا، فأجاب عليهم قائلا: «إن لكم عندنا ثلاثا لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا». لقد كان مدرسة اجتماعية ناجحة وفعالة، فله من الكلمات والقوانين ما يمكن الاستهداء بها لبناء علاقات اجتماعية سليمة وناجحة، وما عليك إلا أن تتنور بكلماته ذات المداليل الاجتماعية العميقة.
إنه درس متجدد وخلاق، ونهر متدفق، ونور لماع، ينير الدرب، ويجلي الكرب، ويبعث الأمل، ويسد الخلل، تاريخه وسيرته عبر، ونهجه نهج البلاغة فيه المبتدأ والخبر، لقد كان في سيرته ونهجه السياسيَّ البارع، والاجتماعيَّ الحكيم، والعالم المتعمق، والفقيه المتوسع، والمجرب النبيه، والطبيب المداوي، والتشريحي الباهر، والمجاهد الواعي، كل كلمة من كلامه وكل موقف من مواقفه أمة قائمة بذاتها، وكل خطوة من خطواته درجة في سلم الارتقاء إلى الكمال والمجد.
إذن لا بد من الاعتراف أن يوم الغدير بحق فردٌ في الأيام، وعيد في الأعياد، وسلّمٌ إلى المجد، ونافذة على الاستقامة، وآداب الخلافة والإمامة، كان الغدير ولا يزال يوم الاطلاع على أنموذج الكمال للوصول إلى كمال التجارب، إنه يوم الوقوف على ديار المجد وآثار الفضل، ويوم بناء الشخصية المسلمة الملتزمة، بكتاب ربها وسنة نبيها، المهتدية بهدي الوصي المقتفية آثار الصالحين وعلامات المؤمنين، إنه يوم الجود والشجاعة والزهد والفضل، يوم التواضع وخلود الذكر الحسن، هو يوم الإحسان والبر والطاعة، هو يوم فن التعامل الحسن، وحسن اختيار المنهج الدنيوي للوصول إلى الفوز الأخروي، هو يوم اكتمال الدين، وصلاح السريرة واليقين، هو يوم التغيير والثورة، يوم الوفاء والاعتراف لأهل الفضل بالفضل.
هو اليوم الذي يجب أن نجعله محطة البدء ونقطة الارتكاز وبداية المشوار إلى حياة جديدة نستنير خطاها ونستضيء دربها من صاحبه صلوات الله على النبي وعليه وعلى آلهم الأكرمين وعلى جميع الملائكة والمرسلين.

قد يعجبك ايضا