حول مثلث السياسة والعدالة والبيئة

عبد العزيز البغدادي

 

من المؤسف أن فن تنميق الكلمات والتلاعب بالألفاظ والجمل والفصل بين الأقوال والأفعال صار منهجاً في حياة وتعاملات الأفراد والمجتمعات والدول وسياسة متبعة في الاقتصاد والاجتماع أو البيئة وغيرها ، آخر علامات هذا السلوك على مستوى العالم ما جرى في 31/ 10/ 2021 ، فبعد ما يسمى قمة العشرين في روما مباشرة عقد بغلاسكو بإسكتلاندا مؤتمر الأمم المتحدة حول التغير المناخي المستمر في التصاعد في كل لحظة وكالعادة في كل عام تحول المؤتمر إلى منتدى للتباري بما لذَّ وطاب من كلمات زعماء الدول التي تنشر في الأرض الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي فهي التي تلوث وهي التي تدبج الكلمات وتحذر العالم من أن الوضع أصبح خطيراً والدول ذاتها تمارس نفس اللعبة في صناعة الإرهاب وادعاء محاربته ، وهذه بعض معالم مدرسة النفاق العالمي.
ومن المحزن أن القضاء صار هو الآخر محكوما بهذه الآلية المنسوبة للسياسة تسيره ألاعيبها والمفترض أنه ملاذ يجب أن يبقى نظيفاً من هذه الأوبئة لأن الحاجة إليه ليست كبقية حاجات الإنسان ، كون القضاء والمنظومة العدلية حارس وحامي العلاقات والروابط المجتمعية والتوازن بين الحقوق والواجبات ، ومن أوجب واجبات تحقيق هذه الغاية بذل العناية اللازمة لتكون منزهة عن النفاق والكذب وألاعيب السياسة وبمنأى عن الآيدولوجيا الآفلة في كل الدنيا ، لا تتحكم به مراكز القوى كون المعول عليه أن يلجم هذه المراكز ويكبح جماحها ومن لهم أي تأثير في اختيار القضاة وفي سلوكهم لاشك أنهم يدركون خطورة ضياع العدالة على بقاء الدولة إن هم أساءوا الاختيار أو التقدير ولو بالصمت إن كان للقول فائدة أو تركوا لهم الحبل على الغارب ، ولا أظنهم عن هذا غافلين ، ومن المؤكد أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي إذ لا بد أن يستشعروا خطورة المنافقين على العدالة وأقصد عدالة التقاضي والعدالة بمفهومها الشامل.
في خطابه الأخير أشار السيد حسن نصر الله إلى خطورة تلاعب بعض القضاة اللبنانيين بقضية تفجير مرفأ بيروت في 4/ أغسطس 2020 بـ2750طناً من نترات الأمونيوم ، مؤكداً أن مما يحرس جرائم السياسيين جرائم القضاة ، وهي بنظري جرائم تنطبق عليها عدة توصيفات منها المساهمة السابقة والمصاحبة واللاحقة بحسب واقع الحال في تلك الجرائم بتغطيتها والتباطؤ في الإجراءات ، ونوه نصر الله بخطورة حماية القضاة بعضهم بعضاً وهو منهج متبع في كثير من الأنظمة القضائية العقيمة منها اليمن ولبنان ودول الخليج وفي ظل هذه الأنظمة يستحيل أن يخطوا القضاء خطوات جادة نحو الإصلاح الحقيقي إذ من غير المعقول أن يصلح القضاء نفسه دون وجود ضغط اجتماعي يمثله في مجالس القضاء ممثلون للمحامين بعد إصلاح وضع مهنة المحاماة كذلك وأساتذة الحقوق في الجامعات الحكومية من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والحرص على مبدأ لعدالة ، فحصانة القاضي لا تشمل حمايته من المساءلة بل يجب أن يكون أول من يحاسب عن المساس بآلية الوصول إلى العدالة ، وما تسمى في لبنان الاستنسابية تعني ازدواج معايير التعامل مع المتورطين في الجريمة إما لأسباب سياسية أو لأي سبب ، وكل الدلائل تشير بوضوح إلى مدى قذارة أيدي بعض تجار السياسة والحروب ومختلف الجرائم في لبنان الشقيق الشبيهة بما يعانيه وطننا اليمن من تلاعب بالقضاء.
إن عدم احترام العدالة وانعدام الرغبة أو القدرة على التفريق بين التدخل السياسي لمساندة ومساعدة القضاء على الخروج مما يعانيه من فساد وظروف صعبة يقتضي اتخاذ خطوات استثنائية لتنقيته مما شابه من تراكمات سلبية بدءاً بالمنظومة التشريعية والمراجعة الجذرية في حدود الممكن للكادر البشري من قضاة ووظائف مساعدة وتصحيح أوضاعه كافة وبين التدخل السلبي في شؤونه بما يمس استقلاله باعتبار دعوى الاستقلال تستخدم متراسا لصد أي توجه جاد للإصلاح الذي تقتضيه الضرورة الملحة ومن المؤسف أن عددا كبيرا من القضاة يستفزهم الحديث عن فساد القضاء في مقابل قلة من القضاة الشرفاء الذين هم من أوائل المستفيدين من أي إصلاح حقيقي للقضاء وقد أكدنا مراراً على أهمية إصلاح أوضاع القضاء كمدخل لاستقلاله وهي عملية مترابطة متكاملة مع التقدير لكل الجهود التي تبذل مع أمل أن تكون أكثر تنظيماً وتجنباً للارتجال والتسرع لأن طابع الاستعجال في هذا المجال يسبب الإرباك كما أن بقاء الحال كما هو لا يجوز.
والسياسة اليوم لم تعد فيها ثوابت ولا حواجز ولا ممنوعات ولا أي مقاييس أو معايير لما يصح وما لا يصح قوله وفعله، بل إن هذا الانفلات الأخلاقي القيمي يسيّر الحياة ضد الحياة، وهو ما جعل الطريق ممهدا أمام من يمارسون الفعل السياسي المباشر أو يكذبون في اللقاءات والاجتماعات التي تناقش ممارسات الإدارة والتخطيط وتقييم أداء المؤسسات والمصالح والهيئات والمنظمات أو حتى في المؤتمرات التي يفترض أنها ذات طابع علمي بحثي . هذا المنهج الذي يمتطي صهوة السياسة منزوعة الأخلاق صار له في الحياة صولات وجولات وله منظريه وأتباعه ومستحليه في أغلبية الأنظمة التابعة أو المتبوعة سواء باسم المصلحة أو باسم المبادئ الدينية أو الفلسفية ، وهو ما يشكل خطرا عاما محققا على مسار الحياة الإنسانية التي تتجرد ببطء من القيم والمعروف أن مبادئ الأخلاق العليا جزء من الثابت الإنساني سواء استقاها من الأديان أو من القانون.
ولم تسلم قضايا البيئة المتعلقة بحياة الكوكب ونظام الكون من هذا المنهج الذي تسيره مراكز التأثير المالي والاقتصادي وجشع الشركات متعددة الجنسيات وسياسات الدول الصناعية المنتجة التي تضع سكان المعمورة والحياة عموماً على كف عفريت وتهددها بالفناء خدمة لمصالحها.
قل لمن ينشر في الأرض الفساد
ولمن يصطاد أرواح البشر
أيهم يعلم أن الأرض أم الكائنات
أيهم يسأل عن قوس قُزح

قد يعجبك ايضا