مسؤولية الدولة والمجتمع في تيسير الزواج (2)

د. حمود عبدالله الأهنومي

 

 

أسباب تعسير وتعسّر الزواج
بتيسير الزواج يتم محاربة كثير من أسباب تعسيره، وهي أسباب لا تعدو في معظمها أن تكون أمراضا اجتماعية غير شرعية، بل يحاربها الشرع، وتتنكّبها الفطرة، ومنها:
-التباهي بين الناس والتفاخر، حيث يندفع البعض من الأسر إلى محاولة الظهور بمظهر أسر أخرى، في اللبس، والعادة، والشكل، والاستعدادات، والاحتفالات، وابتداع أمور إضافية، مباهاة ورياء وتكاثرا، وهذا أمر غير محمود في الدين.
-وكذلك قد يعسِّر الناسُ الزواجَ على فقير بسبب فقره، وهذا نوع من الازدراء والتكبُّر على خلق الله بسببٍ ليس منهم.
-ومنها الإسراف، فبعض الأسر تريد لابنتها في زفافها الملابس الغالية، والتجهيزات الكبيرة، والموائد العامرة، وكثير من تلك الأمور لا يخلو من الإسراف والمَخِيلة المنهي عنهما.
-ومنها الوقوع في محظور الاستحواذ على المال من غير حله، فيذهب العريس أو أهله لتحصيل المال الذي يسد تلك المتطلبات التي ما أنزل الله بها من سلطان إلى طرق غير شرعية، كالسرقة، والخيانة، والرشاوى، والابتزاز، والطمع.
-ومنها الوقوع في خطر الاستدانة، فقد يذهب العريس أو أهله للاستدانة من شركات أو مؤسسات أو أشخاص، ربما يتعاملون بالربا، فتتضاعف على الزوج وأهله المسؤولية، وفي هذا ما فيه من هم، وغم، ونكد، وقلق، وضغوط نفسية وروحية واجتماعية، ودخول في حرب مع الله، ثم ما ينتج عن ذلك من مواقف، وسلوكات، منحرفة وشائنة.
وبالتيسير في الزواج يساهم الناس في طهارة المجتمع من الوقوع في هذه المصائب والسلوكات المؤثرة والسلبية.
(وأنكحوا الأيامى منكم) عنوان هام وحيوي
يهدي القرآن الكريم إلى التي هي أقوم في كل شؤون حياتنا، ومن أعظم الآيات هدى في موضوع الزواج وواجبات الدولة والمجتمع تجاه هذه المؤسسة الاجتماعية الهامة، قوله تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]، فهي آية تهدي إلى اتجاه عظيم، وقيم عظيمة، وتعالج مشكلة اجتماعية كبيرة، وعنوان (أنكحوا) عنوان واسع يدخل تحته إجراءات وأعمال وأهداف ومؤسسات وهيئات كثيرة يمكن لجميعها أن تتحرك في خطوط هذا العنوان العريض والواسع والحيوي.
إن هذه الآية الكريمة تخاطب الجميع دولة ومجتمعا وأفرادا وأولياء بأن يبادروا إلى الإنكاح للأيامى رجالا ونساء، ومن دون شك فإن الأوامر الإلهية المتعلق تنفيذها بمجموع الأمة فإنها موكولة إلى إمام الأمة ممثلا اليوم في مؤسسات الدولة الحديثة التي تعمل تحت إدارته وإشرافه، وحين يقول الله: (وأنكحوا) فإن هذا التوجيه الإلهي -الذي يجب أن نسارع إلى تنفيذه من منطلق المحبة لله والخوف منه واستشعار عبوديتنا له-، يجب تنفيذه على الدولة في ما يتعلق بالفريضة الجمعية، التي لا تقام على مستوى الأفراد، وإنما على مستوى الأمة، من تسهيل إجراءاته، وإنشاء المؤسسات الجديدة، وتفعيل المؤسسات المعنية وذات العلاقة، ومساعدة الفقراء والمعوزين، حيث هناك فرائض لا يمكن قيامها إلا بشكل جماعي، وهذه الفرائض مما يناط بالدولة أن تقوم بها، مثلها مثل الجهاد في سبيل الله، وتكوين الأمة التي أمر الله، والاعتصام الجماعي، ، وإقامة الحدود، ونصب الحكام، وهذه عملية تقع لزاما على الدولة في تنظيمها والتهيئة لها.
وبالنسبة للفرائض الشخصية الواقعة على عاتق الإنسان الفرد، فإنه يجب على الولي مثلا أن يسهِّل الزواج، وأن يُنْكِحَ قريبتَه الأيِّم، وأن لا ينظر إلى فقرِ أو غنى من يتقدم لخطبتها، كما يجب عليه أن ينكح الأيّم الزوج من قريبته، وهذه فريضة يمكن تناولها من اعتبارات متعددة.
وقد أحسن سيدي العلامة فقيه القرآن المجاهد بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – حين قال استيحاءً من هذه الآية المباركة:
“(وأنكحوا) لعله يصدُقُ على الزواج والمِلك الذي يحصل به النكاح، و(الأيامى): غيرُ المزوَّجات من النساء وغيرُ المزوَّجين من الرجال.
وفي تفسير الإمام زيد بن علي عليه السلام: “(وأنكحوا الأيامى)، وهن: النساء اللاتي لا أزواج لهن، والأيامى من الرجال أيضا”، انتهى، يعني: الرجال الذين لا نساء لهم. وفي الصحاح: “الأيامى: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء”، انتهى.
وظاهره الوجوب على أولياء النساء الأيامى أن يزوجوهن، وعلى من خَطَبَ إليه الكفوُ المَرْضِيُّ خُلُقُه ودينُه أن يزوِّجَه إذا كان أيّما، وكذلك الوجوب على الإمام أن يزوِّجَ الأيِّم المُعْسِرَ من بيت المال، فالأمر للجميع يتوجّه إلى الإمام مثل آيات الحدود، وإنما خُصِّصَتْ للولي حيث يخطب عند المستطيع؛ لأنه لا يتكلف كلفة تُحْوِجُ إلى السلطة، والأمرُ المُوَجَّه إلى الكل يتوجَّهُ إلى مَنْ يختصُّ به، كقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات)، (ولا تنكحوا المشركين)، (فطلقوهن لعدتهن)، وغير ذلك”.
وأضاف رضوان الله عليه قائلا: “وقوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) أي إن يكن الخاطب فقيرا فلا يتركوا إنكاحه لفقره، وقد روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام أنه قال “من ترك التزويج مخافة الفاقة أساء بربه الظن، إن الله عز وجل يقول: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله”، رواه محمد بن منصور المرادي في أمالي أحمد بن عيسى عليه السلام بإسناده، وكم من غني ينقلب فقيرا، وكم من فقير يستغني، فحبس البنت عن الفقير انتظارا للغني غلط، ومخالفة للآية الكريمة”.
مسؤولية الدولة في تيسير الزواج من منظور إسلامي
من منطلق رؤية أهل البيت عليهم السلام التي ترى في ولاية الأمر في الإسلام أنها امتداد لولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي أيضا امتداد لولاية الله، وهي ولاية رحمة ورأفة ورفق وهداية، قبل أن تكون ولاية أمر ونهي وسلطة، فإن أئمة أهل البيت عليهم السلام رأوا في الحاكم الممثل لهذه الولاية مجرد ممثل للرحمة الإلهية في هذا الوجود.
ومن خلالِ نصَّيْن للإمام الهادي إلى الحق، يتضح مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها في هذا الصدد، أولهما قوله عليه السلام في الأحكام:
“ويجب للرعية على الإمام أن يهديهم إلى الحق، وينهاهم عن الفسق، ويأمرهم بالمعروف الأكبر، وينهاهم عن التظالم والمنكر، ويحكم بحكم الله فيهم، ويمضي أحكام الله عليهم، ويعدل بينهم في حكمه، ويساوي بينهم في قسم فيئهم، ويحملهم على كتاب ربهم، ويفقِّههم في الدِّين، ويقرِّبهم من رب العالمين، ويوفِّر أموال الأغنياء، ويغني في أموال ربهم الفقراء، ويشبع منهم البطون الجائعة، ويكسو منهم الظهور العارية، ويقضي ديونهم، وينكح من لا يجد إلى النكاح طولا منهم، على قدر السعة والوجود، ويقربهم ولا يبعدهم، ويكرمهم ولا يهينهم، ويظهر لهم ولا يحتجب عنهم، ويعنى بهم ولا يرفض أمرهم، ويتفقد منهم الخلة، ويسبغ عليهم النعمة، ويكون بهم رؤوفا رحيما، وعنهم ذا صفح حليما، شديدا على من خالف منهم الرحمن، حتى يرده إلى الخير والإحسان، ويردعه عن الظلم والعصيان، لا يستأثر عليهم بأموال ربهم، ولا يصرفها في غير شأنهم، …”.
وقال في نصٍّ آخر تكرر في موضعين من مجموع رسائله الفاخرة، مبيّنا النتائج المتوخاة من الجهاد والثمار اليانعة من شجرته المباركة: “وكيف لا يكون للجهاد في سبيل الله فضلٌ على جميع أعمال المؤمنين، وبه يحيى الكتاب المنير، ويُطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويُعَزُّ الإسلام، ويأمن الأنام، ويُنْصَرُ المظلوم، ويتنفَّس المهموم، وتتجلى الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويَعِزُّ أهل التقوى، ويَذِلُّ أهل الردى، وتشبَعُ البطونُ الجائعة، وتُكْسَى الظهورُ العارية، وتُقْضَى غراماتُ الغارمين، ويُنْهَج سبيل المتقين، ويُنْكَح العزّاب، ويُقْتَدَى بالكتاب، وتُرَدُّ الأموالُ إلى أهلها، وتُفَرَّقُ فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرَّق عليهم الأرزاق”.
واليوم يولي القائد العلم السيد عبدالملك الحوثي مسألة تيسير الزواج اهتماما خاصا، ومحاضراته مملوءة بالحث على ذلك، وفي محاضرته الرمضانية العشرين سنة1439هـ، ذكر أن “هذه مسألة يجب أن يتعاون فيها الجميع، الجانب الرسمي والجانب الشعبي، العلماء، الوجاهات، عقال الحارات بالنسبة للمدن، والوجاهات معهم النخب، الجميع، ويترافق معها عمليات توعية قوية في الساحة والتزامات يُتَّفَق عليها بشكل منظم، تضبَط هذه المسألة، وتساعد على تيسير عملية الزواج”.
وللحديث بقية في المقالات القادمة

قد يعجبك ايضا