"الحلقة الثانية"مرحلة ما قبل البعثة

محمد رسول الله.. وقفات مع سيرة المصطفى صلوات الله عليه وآله وسلم من خطابات السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي

• هو رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، من نسل نبي الله إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ونبيه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
خاتم الأنبياء والمرسلين ورسول الله إلى الناس كافة، أرسله الله رحمة وهداية للبشرية كلها، واختاره الله من نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان محط عناية الله ورعايته فقد جعله من نسل طاهر ونسب طيب، خيار من خيار من خيار، وبعثه الله في مكة لإنقاذ العرب ولإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.

مدلول الجاهلية وأهمية التركيز عليه
الجاهلية لها مدلول من المهم استيعابه، ومن المهم التركيز عليه، الجاهلية: هي تعني حالة الانفلات التي سادة في أوساط البشر، فتجردت فيها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وأصبحت متبعةً للأهواء والتوجه الغريزي بدون أي ضوابط شرعية، ولا أخلاقية، ولا أي التزام بتعليمات الله “سبحانه وتعالى”، إلا في حالات محدودة جدًا، لا تترك أثرها الظاهر والجلي في حياة الناس.
الجاهلية تعني: حالة الانفلات، وحالة الابتعاد عن نهج الله “سبحانه وتعالى”، عن نوره؛ ولذلك كانت فعلًا عصرًا ظلاميًا بكل ما تعنيه الكلمة، فالتصورات والاعتقادات والأفكار، ثم ما ابتنى عليها من: تصرفات، وسلوكيات، وعادات، وتقاليد، ومواقف…الخ. كانت ظلامية، كانت باطلة، كانت جهالة، بعيدًا عن مقتضى الفطرة، وبعيدًا عن الحق، وبعيدًا عن الحقيقة، وهذه الحالة الانحرافية هي توصّف بالجهالة، توصّف بالجاهلة، يعني يمكن أن يكون الإنسان- مثلًا في عصرنا هذا- يمكن أن يكون جامعيًا، يمكن أن يكون بروفيسور، يمكن أن يكون معلمًا، يمكن أن يكون على مستوى عالٍ من المعرفة على مستوى القراءة والكتابة، والاطلاع على مقروآت وكتب ونحو ذلك، ولكنه في سلوكه، في انحرافه السلوكي جاهل، يتعامل بجهالة، نبي الله لوط قال لقومه، قال “عليه السلام” لقومه: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[النمل: من الآية55] وصّف حالتهم الانحرافية بالجهالة، القرآن الكريم- أيضًا- وصّف حالة المعصية لله بالجهالة أيضًا {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ}[النساء: من الآية17] جهالة: يعني بعدًا عن مقتضى الفطرة، عن مقتضى الحكمة، عن مقتضى العدل، عن مقتضى الإنصاف، عن مقتضى الحكمة والمنطق حسب تعبيرنا السائد، عن مقتضى العقل، عن مقتضى ما تقتضيه الفطرة ويقتضيه التعليمات الإلهية التي فطر الله الناس على تقديسها، وعلى الاعتراف بها، وعلى الاحتكام إليها في: المدح، والذم، والثواب، والعقاب.

جاهلية جهلاء وانحطاط
حقبة ما قبل البعثة تمتد ما بين نبي الله عيسى عليه السلام آخر الأنبياء في بني إسرائيل، إلى مولد النبي صلوات الله عليه وعلى آله وسلم وحسب بعض التقديرات التاريخية فإنها تصل إلى خمسمائة عام.
الجاهلية وهو التوصيف القرآني لحقبة ما قبل البعثة التي شابها الكثير من الانحرافات والمتغيرات الكبيرة في المجتمع البشري، والجاهلية لا تعني الأمية والجهل بالقراءة والكتابة فقط فقد كانت هناك دول وكيانات لم تكن تعاني من أمية القراءة والكتابة ، لكن الجاهلية تعني حالة الانفلات التي سادت في العالم.
حقبة ما قبل البعثة، وقبل مولد النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، عن الفترة الممتدة ما بين نبي الله عيسى “عليه السلام” آخر الأنبياء في بني إسرائيل، وآخر الأنبياء الذين وثّق القرآن الكريم نبوتهم وحركتهم فيما قدمه عن الرسل والأنبياء ما قبل خاتم أنبياء الله محمدٍ “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، إلى حين مولد النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
الفترة هذه التي امتدت على مدى أكثر من خمسمائة عام في بعض التقديرات التاريخية، وشابها الكثير من الانحرافات والمتغيرات الكبيرة في المجتمع البشري، تسمى- حسب التوصيف القرآني، والتسمية القرآنية: (بالجاهلية) ومدلول ومفهوم هذا التعبير (الجاهلية) لا يعني فقط الأمة أو الأجيال أو الناس الذين لا يقرأون ولا يكتبون، الجهل المتعلق بالأمية في القراءة والكتابة؛ لأن كثيرًا من الدول والكيانات- آنذاك- لم تكن تعاني من أمية القراءة والكتابة، مجرد القراءة والكتابة، هذه حالة ربما طغت في الواقع العربي آنذاك، أن كانت نسبة القراء والكتاب من العرب نسبة ضئيلة جدًا، ولكن هناك مثلًا: الروم، الفرس، كيانات أخرى، كانت تنتشر فيها ظاهرة القراءة والكتابة والتأليف، ومع ذلك كانت محسوبةً ضمن الجاهلية، وضمن العهد الجاهلي.

الجاهلية الأولى في التعبير القرآني
فالحالة الجاهلية، الجاهلية الأولى في التعبير القرآني الحكيم والحقيقي والمحق، في الحق القرآني يصف ذلك العهد بالعهد الجاهلي، لهذه الكلمة مدلول مهم، يجب أن ننظر هذه النظرة لكي نكون حذرين فيما يعنيه واقعنا، فيما سنتحدث عنه بشأن الجاهلية الأخرى التي تحدث عنها النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” حينما قال فيما روي عنه: (بعثت بين جاهليتين أخراهما شرٌ من أولاهما)، فهي أشد، وأكثر شرًا وخطورةً.
فهذا العهد الجاهلي، بالرغم من كل من فيه وما فيه من: فلاسفة وعباقرة، وقادة ورموز، وعلماء ومفكرون، وسياسيون… وإلى غير ذلك، زعامات من مختلف فئات المجتمع، يثق فيها الكثير من الناس، يرتبط بها الكثير من الناس، يطمئن إلى نظرتها وإلى تفكيرها وإلى أقوالها الكثير من الناس، وجد فيها كل تلك الخرافات والجهالات والأباطيل والانحرافات.

جملة من الانحرافات في العهد الجاهلي

ظاهرة الشرك بالله
العهد الجاهلي هذا كان فيه جملة من الانحرافات، لا يتسع الوقت للحديث عنها بكلها، وإنما نتحدث عن بعضٍ من أبرزها وأول وأكبر وأسوأ ظاهرة كانت قائمة آنذاك، ولا زالت قائمة اليوم، وإن لم تكن في بعض المناطق، أو كان لها شكل في مناطق يختلف عن شكلها في المناطق الأخرى، هي: ظاهرة الشرك بالله “سبحانه وتعالى”، ومعناه: الاعتقاد بتعدد الآلهة، هذه العقيدة الباطلة، الظالمة، الفاسدة كانت قد طغت في واقع البشرية، وشملت الواقع البشري، وقد تكون الاستثناءات استثناءات لا تكاد تذكر يعني، قد تكون: إما أشخاصًا معدودين، أو- كذلك يعني- بطون محدودة جدًا.
الحالة التي طغت في الواقع العالمي هي ظاهرة الشرك بالله “سبحانه وتعالى”، وهو: الاعتقاد الصريح الواضح بتعدد الآلهة، يعني: لم تكن حالة الشرك فقط حالة الزامية، أنه يلزمهم مثلًا من القول بكذا أنهم قد جعلوا شريكًا مع الله، لا، كانوا صريحين في عقيدتهم هذه، كان المشركون من كل الفئات والتيارات القائمة- آنذاك- كانوا صريحين في عقيدتهم هذه، وكانوا يعتقدون بتعدد الآلهة، وأنها ليست إلاهًا واحدًا هو الله الإله الحق، وإنما يعتقدون بوجود آلهة أخرى شركاء- بحسب زعمهم وافرائهم وباطلهم- مع الله “سبحانه وتعالى”، وإن كان الله “جلّ شأنه” عندهم في اعتقادهم هو الإله الأكبر، ولكن كانوا يتوهمون، أو يعتقدون باطلًا أن تلك الآلهة هي أشبه ما تكون قائمة بدور مساعد ومعينه، أو في بعض الحالات لها اختصاصات معينة: إله يضنونه متفرغًا لموضوع معين، وإله- حسب زعمهم- متفرغ لمسألة معينة، ذاك عليه أن يرزق، وذاك عليه أن يرزق البشر بالأطفال، وذاك عليه أن يشفي المرضى، وذاك متفرغ لعملية النصر، وذاك متفرغ لعملية الدعم العسكري، وذاك متفرغ… يعني جهالات وخرافات كثيرة.
والحالة الأخرى لدى اليهود ولدى النصارى انحراف كذلك ولكن في تأليه أشخاص، بدلًا من الأصنام الحجرية تأليه أشخاص إما من الأنبياء مثلما هو الحال بالنسبة للنصارى في تأليه عيسى “عليه السلام” رسول الله وعبده، فاعتقدوه إلهًا مع الله “سبحانه وتعالى” وربًا معه، أو في ما يتعلق باليهود في اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وحالة حصلت- أيضًا- لدى النصارى هذه، وفي مسألة عزير، التصورات الخاطئة نحو الله “سبحانه وتعالى” في اعتقادهم بأن الملائكة بنات الله، هذا بالنسبة مثلًا في الحالة العربية.

انحطاط كبير في الأخلاق
الوضع الأخلاقي كان هناك انحطاط كبير جدًا، انتشار كبير للفواحش، الفاحشة، الجريمة الأخلاقية كانت منتشرة بشكل كبير جدًا وبدون أي تحاشٍ، أصبحت مسألة اعتيادية، ولو أنها مذمومة لديهم، هي مذمومة، لا تزال مذمومة، وينظرون إليها بعين الازدراء والاحتقار والاستياء، ولكن ماشين عليها، ومنتشرة بشكل كبير، ولذالك كانت تنتشر ظاهرة الأولاد غير الشرعيين، والتفكك الاجتماعي، كان المجتمع- آنذاك- مهددًا بالتفكك الاجتماعي، وكانوا- أحيانًا- يتنازعون على المولود الواحد، يتنازع عليه أربعة أو خمسة إذا كان ذكرًا، كلٌ منهم يدعي أنهُ والده، حالة أشبه ما تكون بحالة الحيوانات، وكأنهم ليسوا مجتمعًا بشريًا.
الأسرة كانت مهدده بالتفكك، وهي اللبنة الأساسية في الفطرة البشرية التي يتكون منها المجتمع، إن سلمت كان في هذا سلامة المجتمع، وإن تضعضعت وضُربت من الأساس ضُرب المجتمع بمعول الهدم في أساس بنيانه، وهي الأسرة، فكانت منتشرة بشكل فظيع، بما فيها من دنس نفسي، من انحطاط نفسي وأخلاقي، ومن أضرار اجتماعية كبيرة جدًا تهدد المجتمع في تماسكه الأسري، وفي تكوينه أيضًا.
أيضًا انتشار الخمر والميسر، الخمر كان منتشرًا؛ حتى أنهُ أصبح من المشروبات- آنذاك- شبه الضرورية والمعتادة جدًا في المجتمع العربي، والخمر خطير جدًا، خطير على القيم وعلى الأخلاق، ومفاسده كبيرة ورهيبة، إلى درجة أنه سماه النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” (بأم الخبائث)، أم الخبائث، مصدر لبقية الخبائث، الانحرافات، المفاسد السلوكية، الإنسان الذي يعتاد شرب الخمر يتأثر في استقامته الفكرية، يصبح عنده خلل كبير في التفكير، وفي النفسية التي يحملها: نفسية دنسه، تافهة، مستهترة، عابثة، دَنِيئة، منحطة.

إنكار البعث والقيامة والجحود بالمعاد
العرب كان من أسوأ العقائد لديهم: إنكار البعث والقيامة، والجحود بالمعاد، وكانوا يستغلون هذه العقيدة الكفرية والإنكارية للبعث والمعاد لحالة التفلت والعبث التي يعيشونها، وعدم الانضباط لا في الحالة العدائية التي هم عليها (يعتدون، ويعبثون، ويظلمون)، والمفاسد الأخلاقية وغير ذلك… {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة: -65]، كانت الحالة التي هم عليها من الإنكار الشديد للبعث سرها والدافع وراءها هو هذا الإصرار على الاستمرار في الفوضى وعدم الالتزام، ما يشتي يلتزم، يقول لك: [ما بش جنة ولا نار، خلينا نسوي الذي نشتي، ونتصرف مثلما الذي نشتي، وهي حياة هنا نعبث فيها ونسوي الذي نشتي، ونكيف، ونحصل على ما نرغب وبس، ما عاد بش أفق، ما عاد به مستقبل آخر، ما عاد به جنة ولا به نار نخاف منها]، كانوا على هذا النحو ينكرون البعث، وكذلك كفر بالله باستضعاف قدرته على البعث.

ظاهرة قتل الأبناء
كان البعض يخاف على أبنه الفقر، انه لا يكبر ويعاني من الفقر، وعندهم عقده شديدة من الفقر؛ فيتصور أن الحل الجذري لهذه المشكلة هو: أن يقتل ابنهُ، فيقتلون أبنائهم خشية الفقر { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ }، قال الله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}، الله هو الرزاق {لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ}[الإسراء: من الآية31]، الله وعد برزقهم{ وَإِيَّاكُم}، فلن يكونوا لا عبئًا عليكم ومشكلةً عليكم؛ لأن الله هو الذي يتولى الرزق لعباده، ولن يكونوا ضائعين هم في أنفسهم بدون رزق؛ لأن الله هو الرزاق الكريم ذو القوة المتين، والغني الحميد.
كذلك البعض ليس خشيةً على ابنه من المستقبل للفقر، إنما لأنه هو يعاني من ظروف صعبه، ولا يريد أن يتكلف بالنفقة على ابنه؛ فيقتل ابنهُ، ولهذا قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، هذه الحالة كانت منتشرة، يعني: مجتمعٌ انعدمت فيه الرحمة، فكان على هذا النحو لا يمتلك الرحمة حتى تجاه ابنه، وتجاه طفله، وتجاه طفلته، كيف سيكون تجاه الآخرين، إذا ما عاد في رحمة حتى تجاه ابنه وبنته في مرحلة الطفولة كيف سيكون تجاه الآخرين!.

التحريم والتحليل الفوضوي
لم تكن مسألة التحليل والتحريم قد شطبت نهائيًا في العهد الجاهلي، لا، لا يزالون- آنذاك- يعتبرون بعض الأشياء حرام، وبعض الأشياء حلال، لكن بالمقلوب، فحرُّموا من الحلال وأحلُّوا من الحرام، واستحلُّوا بعض المحرمات، جعلوها شبيهةً بالحلال، ما عاد هناك أي تحرج في مسألة ممارستها؛ ولهذا الله قال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ}[النحل: من الآية116]، مثلًا استحلوا الميتة، وهي محرمة، وظاهرة تخلَف وانحطاط أكل الميتة وانعدام للذوق الفطري والبشري والسليم، وهي حرام- في نفس الوقت- حرمة مؤكدة، استحلوها وأكلوها، الدم استحلوه وأكلوه وهو محرم، لحم الخنزير- كذلك- استحلوه وهو محرم، وحرموا بعض الإبل، بعض البقر، بعض الغنم، بعض الماعز لاعتبارات معينة؛ لأنها عدد كذا من المولود، وإلا انتجت كذا، وإلا مثلما هو الحال في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من الإبل والبقر والغنم، ففوضى كان عندهم في التحليل والتحريم، وحالة مزاجية أثَّرت على ذلك، وحكمت ذلك.
انعدام حالة الأمن وانتشار للفوضى
من الظواهر التي انتشرت- آنذاك- بشكل كبير: انعدام لحالة الأمن، وكذلك انتشار للفوضى، انعدام لحالة الأمن والاستقرار نهائيًا، الحالة الاجتماعية مهددة، الوضع الاقتصادي كذلك، في وضع- بالذات في الجزيرة العربية- على نحوٍ فظيع، متدني، فيما كان الوضع مثلًا في مكة على المستوى الاقتصادي كان جيدًا في مكة، مكة والكعبة (البيت الحرام) بقي لها حرمتها، ومكانتها الكبيرة في أوساط المجتمع، وكان العرب يعظِّمون الكعبة، ويحجون، وكانوا لا يزالون يدَّعون أنهم على ملة إبراهيم، بالرغم من كل ما معهم من: شرك، ومنكرات، وأباطيل، واستقسام بالأزلام، وعبادة للأوثان، وخرافات كثيرة، وانحرافات كثيرة.

مميزات كانت لا تزال في الواقع العربي ومهيأة لهذا المجتمع لتلقي الرسالة الإلهية

المميزات التي كانت لا تزال في الواقع العربي هي: الإباء، والعزة، الكرم، يعني بعض الأخلاق لا زالت موجودة، ومهيأة لهذا المجتمع لتلقي الرسالة الإلهية.
في وسط قريش كانت أسرة بني هاشم (أجداد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وبيته الذي ولد منه) كانوا أيضًا مختلفين، مثلًا: عبدالمطلب (جدُّ رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”)، كما هاشم- أيضًا- عُرِفَ عنهم أنهم كانوا على حنيفية إبراهيم موحّدين، ولم يكونوا على الشرك مثلما كان عليه حال قومهم، وأيضًا مُتَّسِمون، أسرة متَّسِمَة بالشرف والطهارة، والبعد عن المفاسد الأخلاقية، والصيانة من المفاسد الأخلاقية، وهذا شيءٌ عُرِفُوا به حتى في الوسط العربي- آنذاك- أنهم أسرة تتنزه عن المفاسد الأخلاقية، وأسرة تصون نفسها من هذه، وهذا لحفظ الله لهذا الشرف، حتى يأتي هذا المولود طاهرًا من نسلٍ طاهر لا يتلوث، نسل طاهر يصل به نسبه إلى إسماعيل “عليه السلام”، إلى إبراهيم “عليه السلام”، من ذرية إبراهيم، من ذرية إسماعيل، من دون أي دنس أخلاقي، أو مفاسد أخلاقية تنحرف بهذا النسل المبارك.

خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَار
فرسول الله كان حقًا من نسل إسماعيل كما قال: ( مَا وَلَدَتْنِي بَغِيٌّ قَط) يعني: طول نسل إسماعيل من لدن نبي الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” إلى إسماعيل “عليه السلام” طهَّره الله من هذه الرذيلة وهذه المفاسد، وأسرة هي الصفوة داخل مجتمع قريش، فكان الحال كما ورد عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” فيما روته الأمة، فيما روته مذاهب الأمة ومحدّثو الأمة في أهم مصادرها: (إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمْاعِيِل، وَاصْطَفَى مِنْ وَلدِ إَسْمَاعِيِل كِنَانَة، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًَا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْش بَنِيْ هَاشِم، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِيْ هَاشِم) لأنه- كما قلنا ما قبل الأمس تقريبًا في كلمة سابقة- سنة الله مع أنبياءه هي: الاصطفاء، الاختيار، الانتجاب، الإعداد التكويني حتى، والتأهيل فيما بعد، (فَأَنَا ـ كما في رواية أخرى ـ فَأَنَا خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَار)، يعني: صفوة الصفوة الصفوة من ذرية إسماعيل “عليه السلام”، وهذا تكريم للبشر، يأتي إليهم برسول من بيئة طاهرة ونقيّة وسليمة، ليس رسولًا مشوهًا برصيد ومحيط سيئ وفاسد، وإلا لم يكن مقبولًا، يقولوا له: [روح لك، من أنت، شوف أتذكر من أنت منه]، يعني يكفي أن يقولوا هكذا يعني، فهذه سنة الله {اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}[آل عمران: من الآية33]، وهو اصطفاءٌ للناس، يعني: ليس اصطفاءً للتكبر على الناس. لا، يصطفي للناس ليقدم لهم شيئًا عظيمًا وصالحًا، يكون لهم، لهم، ورسول لهم، هو في مصلحتهم، في العمل على هدايتهم، في السلوك بهم في طريق الله، وفي طريق الخير.

بشارات وأخبار عن زمن أو عن عامٍ يولد فيه نبيٌ جديد يغير وجه هذا العالم

في ظل ذروة تلك الأوضاع في ما هي عليه من مشاكل وأزمات وفتن وجاهلية وظلمات أتت حادثة اسمها (حادثة الفيل)، في عامٍ سميّ بعام الفيل، عام الفيل هذا اتجهت فيه قوة عسكرية جبَّارة، بقيادة أبرهة الحبشي، وأبرهة هذا من الحبشة، وله جيش كان من الحبشة ومن مرتزقة العرب، من مرتزقة العرب سواءً من اليمن أو من غير اليمن (من الجزيرة)، جيش ضخم اتجه بهدف هدم الكعبة، وبهدفٍ آخر رئيسي يغفل عنه الكثير من أصحاب السير والمؤرخين، الهدف الآخر هو: ما قد أُثر من بشارات وأخبار عن زمن أو عن عامٍ يولد فيه نبيٌ جديد يغير وجه هذا العالم، ويسقط الكيانات القائمة للطاغوت والاستكبار والفساد والظلم والانحراف.
نبي سيقدم ويغيّر هذا الواقع بكله، على أساس أن المؤشرات والأخبار تدل على مولده في ذلك العام، وفعلًا كان العام نفسه عام مولد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، فذهب وكان معه فيل كبير، أو مجموعة من الفيلة- كما في بعض الأخبار- بينها فيل كبير، والفيل كان يستخدم عسكريًا لدى بعض الدول- آنذاك- والكيانات المتمكنة، كما هو حال الروم والفرس، والعرب كانوا يخافون جدًا من الفيل، ينهزمون عسكريًا، يعني: يرون فيه عتادًا عسكريًا غير مألوف بالنسبة لهم؛ فيخافون منه، وينهزمون بسرعة، ولا تثبت أمامه الخيول، فاتجه عسكريًا ومعه الفيل هذا والأفيال تلك، وفعلًا مع العظمة التي كانت للكعبة والتقديس الذي كان للبيت الحرام، لكن الفجيعة من الفيل خلاهم يتنصلوا كلهم العرب عن حماية البيت، وعن التصدي لأصحاب الفيل، وغفلتهم عن الهدف الرئيسي للحملة العسكرية تلك، التي هي حملة كما كانت حملة فرعون للاستباق لولادة موسى بقتل كل الأطفال.
ذهبت تلك الحملة وفشلت؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” تصدى لها، وكان التصدي الإلهي من خلال الطير الأبابيل التي أرسلها الله لإبادة ذلك الجيش، كانت هي- أيضًا- من أكبر وأهم إرهاصات هذا المولود القادم الذي ولد بعد أيام، بعد أربعين يومًا في بعض الأخبار، البعض أكثر، البعض أقل، لكن في نفس ذلك العام ولد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.

ولادة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” حل جذري

المرحلة ما قبل ولادة النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” وقد ساءت أوضاع البشر، وساءت أوضاع العرب، وساءت أوضاع الواقع البشري بشكلٍ عام، وتعاظمت وتفاقمت مشاكل البشر نتيجة الجاهلية القائمة؛ لأنها تنتج: المشاكل الاجتماعية، المشاكل السياسية، المشاكل الاقتصادية، هذا ما يجب أن نعيه جيدًا، الواقع البشري إذا غاب عنه نهج الله، غابت عنه مبادئ وقيم الأنبياء، وأصبح مجتمعًا جاهليًا، وحشيًا، تسوده شريعة الغاب: القوة، الطمع، المفاسد، الرذائل، تتعاظم وتتفاقم مشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، وحلها لا يتأتى من زاوية واحدة، حل سياسي، أو حل اقتصادي لوحده، أو حل… لا، لا بد من حل جذري يعود إلى أصل القيم والمبادئ والأخلاق، وإعادتها إلى حياة الناس، لإصلاح الناس، فيصلح إذا صلح الإنسان كل شيء: تصرفاته، اتجاهاته، أفكاره، يُصلح، يصلح واقعه يعني في النهاية.

قد يعجبك ايضا