الأهمية الثقافية والتاريخية والاجتماعية لـ”جمعة رجب”

 

خليل المعلمي

يختزن التراث الديني في اليمن الكثير من العادات والعبادات والطقوس التي اعتاد عليها اليمنيون منذ قرون، ومنها مناسبة “جمعة رجب”، فاليمنيون يعتبرون هذه المناسبة من المناسبات الدينية الهامة، فهي تتعلق بأول جمعة من رجب الحرام، اليوم الذي دخل فيه اليمانيون في دين الله أفواجاً وذلك في السنة السابعة من الهجرة عندما ارسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه ليدعوا اليمنيين إلى دين الإسلام، وقام ببناء مسجد الجند المشهور والموجود اليوم إدارياً في محافظة تعز، ومن ثم أرسل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

مناسبة اجتماعية

لقد أصبحت جمعة رجب مناسبة اجتماعية ولها مكانة عالية في نفوس اليمنيين منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، تقام فيها اللقاءات والاحتفالات والتجمعات ويتبادل فيها الناس الزيارات فيما بينهم. في هذه الجمعة من كل عام يُحيي اليمنيون هذه الذكرى كل بطريقته، في منطقة تعز وما جاورها يتوافد عشرات الآلاف من عدة مناطق يمنية إلى “جامع الجند” لإحياء هذا اليوم بالذكر والأدعية وإقامة شعائر يوم الجمعة، ويترافق ذلك أن يتجمع الباعة المتجولون ويأخذوا أماكنهم خارج ساحة الجامع منذ الصباح الباكر، وكما يزدحم رواق الجامع وساحته بالمصلين والزوار منذ الصباح الباكر، كذلك تزدحم المناطق المجاورة للجامع، ويرافق هذا اليوم حركة تجارية وثقافية واجتماعية لا مثيل لها. كما يردد المجتمعون والزوار الذكر والدعاء، ويستمعون لخطبتي الجمعة ويقيمون الصلاة، وقبل غروب شمس ذلك اليوم تعود هذه الأفواج راجعة إلى منازلهم وقد أحيوا هذا اليوم تضرعاً إلى الله، شاكرين حامدين الله يأن أكرمهم بهذا الدين الخاتم، وأرشدهم إلى طرق السلام والدين القويم الصحيح. أما في المناطق الشمالية من اليمن خاصة في العاصمة صنعاء وما حولها فيتم إحياء هذه الجمعة ولكن بشكل آخر، حيث تصبح يوم عيد لدى الكثير من الأسر، فتتم الاستعدادات لهذا اليوم بشراء الملابس الجديدة والتجهيز والإعداد للمناسبة والقيام بتحضير مختلف أنواع الحلويات وشراء المكسرات من زبيب ولوز وحلويات جاهزة وغير ذلك، ثم يقوم الآباء مع الأبناء بالزيارات للأرحام والأقارب والأصدقاء، وصلة الرحم، ويكون ذلك يوم فرحة لدى الأولاد والنساء بالحصول على ما يسمى بـ”العسب”، ويتفاخر الأولاد فيما بينهم بكمية العسب التي يحصلون عليها، كما يقومون بشراء الألعاب المختلفة ومنها “الطمش” ويتحول اليوم وكأنه أحد عيدي الفطر أو الأضحى. يستقبل الناس هذا اليوم بفرحة وسرور وهم يستعدون له مادياً ومعنوياً كلٌ حسب وضعه ودخله المالي، لتغطية نفقات هذه المناسبة من أصناف الطعام والحلويات وأهمها الزبيب واللوز اليمني وأصناف الكعك والعصائر التي تقدم للضيوف والزائرين، وكذلك شراء الملابس المختلفة، أما النساء فيستقبلن العيد بالحناء والنقوش وتفصيل وخياطة الثياب المناسبة، كما تتميز الأعياد بعبق العطور والبخور المصنع محلياً وتبخير الثياب والبيوت والمصليات.

دواعي الاحتفال

وما يأتي هذا الاحتفال والاحتفاء بهذا اليوم إلا شكراً وحمداً لله الذي منّ على هذه الأمة اليمنية بهذا الدين العظيم وأكرمهم في الدخول فيه أفواجاً، فاليمنيون كانوا على صلة بالديانات السماوية قبل الدعوة المحمدية، وقد تركت تلك الثقافات أثراً في وجدان وحياة أهل اليمن، وكانت تمهيداً لذلك التدفق الكبير لليمنيين الذي شهدته المدينة المنورة إعلانهم دخول الإسلام أفواجاً وجماعات، مسلمين ومؤمنين ومناصرين. ويصف الأديب والباحث عبدالرحمن مراد حالة اليمنيين قبل الإسلام قائلاً: عند العودة إلى تاريخ اليمن قبل الإسلام نجد أنه قد شهد صراعا مريراً ودامياً بين الديانتين اليهودية والنصرانية، كان له تأثير في بنية الدولة اليمنية المركزية، فضعفت دولتهم وغزاهم الأحباش والفرس، وانقسمت اليمن في هويتها وثقافتها وتنازعتها الثقافات الدخيلة حتى جاء الإسلام، فجمع شمل الأمة اليمنية ووحد ثقافتهم فكانت لهم ثقافة موحدة وهوية ثقافية واحدة، ورأى اليمنيون أن في قيم الإسلام ومبادئه، الحامل الحقيقي لماضيهم الحضاري والثقافي، وسيكون هو المستقبل لهم، فتهافتوا للدخول فيه والإيمان به وحمل رايته والجهاد في سبيل الله وجابوا مشارق الأرض ومغاربها ووصلت رايات الإسلام على أيديهم إلى حدود فرنسا في الغرب وإلى الهند والصين في الشرق.

خصوصية اليمنيين

وقد اختص اليمنيون بيوم دخولهم في الإسلام دون سائر الأمصار والبلدان، وتبعاً لذلك تشكلت الطقوس والعادات والتقاليد والمناسبات فكانت “جمعة رجب” وكانت أيضاً مناسبة الاحتفال بـ”المولد الشريف”، وكل تلك المناسبات تداخلت مع البعد الحضاري والثقافي اليمني لتبدع كونا ثقافيا لا تكاد تجده في غير اليمن، فجمعة رجب عند أهل اليمن أصبحت عبر الأزمان مناسبة كبيرة تحدث تبدلاً رمزياً في البيوت والحارات والقرى وفي المساجد إذ يتجه الناس إلى تجديد فرش البيوت والمساجد ورشها بالطلاء الأبيض (النورة). ويشهد المجتمع حركة اجتماعية غير عادية احتفاء بالمناسبة وتقوم الأسر بذبح الذبائح وإطعام المساكين وتنتشر روائح البخور في الأماكن والساحات والمساجد ويتزاور الناس وتمنح العطايا للأطفال والفقراء، وتلك طقوس وعادات اجتماعية وثقافية قديمة ظلت تتناقلها الأجيال عبر الأزمنة وحقب التاريخ المختلفة، وهي تحمل رموزا وإشارات دالة على الحدث التحولي الذي شهدته اليمن بعد دخولها الإسلام وصلاتها أول جمعة في العهد الجديد.

أصحاب فكر وحضارة

ويحدثنا الباحث في الموروث الشعبي اليمني الأديب يحيى جحاف عن جمعة رجب قائلاً: تمثل جمعة رجب لليمنيين عيداً كبيراً لأنها تتزامن مع دخول اليمنيين في الإسلام طوعاً وكرها، لذلك ظل اليمنيون يحتفلون بهذه المناسبة منذ دخولهم الإسلام حتى هذه اللحظة، والكثير من المدن اليمنية تحتفل بهذه المناسبة، فتقام التجمعات وتتم الزيارات للأرحام والأقارب، ويلبسون الجديد، مثلها مثل بقية المناسبات الدينية الأخرى، ولم تكن هذه الظاهرة في فترة زمنية محددة بل كانت على مدار القرون الماضية منذ دخل اليمنيون الإسلام وحتى يومنا الحاضر. وبالنسبة للعادات والتقاليد فكان أهمها زيارات الأرحام وخروج الأطفال إلى الحدائق والميادين، وإقامة الأهازيج والأفراح، وقد تم الكتابة عن هذه المناسبة في الكثير من المؤلفات. ويضيف جحاف: تأتي أهمية إحياء جمعة رجب من أن اليمنيين قبل الإسلام كانوا أصحاب فكر فقد اعتنقوا اليهودية والنصرانية ومن ثم جاء الإسلام، وحتى قبل اعتناقهم لهاتين الديانتين لم يعبدوا الأوثان كما كانت تصنع الأعراب، فقد كانوا يعبدون ما يسمى بالثالوث، فكان منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد النجم، بمعنى أنهم أصحاب فكر، وأصحاب ملاحظة ومشاهدة، بعكس بقية سكان الجزيرة العربية الذين كانوا يصنعون الأصنام والأوثان ويعبدونها، وإذا جاعوا أكلوا ما صنعوه من التمر، لكن اليمنيين لم يكونوا هكذا كانوا أصحاب فكر وأصحاب حضارة وتاريخ وأصحاب بناء. ويختتم بالقول: نحن اليمنيون أصحاب تاريخ وفكر وبناة حضارة صناعية وزراعية وعلمية قد لا نجدها في تاريخ الأمم الإنسانية.

قد يعجبك ايضا